العروبة بين الفكرة والمؤسسة

حجم الخط

بقلم: الدكتور ناجي صادق شرّاب*

 

نشأت العروبة كهوية في البداية، وفكرة مجسدة للهوية والشخصية العربية في إطار إقليم جغرافي محدد، وكتعبير عن تمايزها عن غيرها من الهويات، وخصوصاً الهوية العثمانية التي حاولت «دولة الخلافة العثمانية» فرضها على المنطقة التي تُعرف اليوم بالعالم العربي. وتجسدت الفكرة في كتابات العديد من المفكرين والكتاب القوميين آنذاك مثل ساطع الحصري وقسطنطين زريق، وميشيل عفلق، وأكرم الحوراني وغيرهم كثر. ومما يلاحظ دعم وتبني الكتاب المسيحيين لفكرة العروبة؛ لأنها الوعاء الهوياتي الذي يحتضن كل الأقليات، ولا يفرق بينها على أساس العرق أو الدين؛ لذلك كانت فكرة العروبة فكرة جامعة حاضنة للجميع، وهذا ما يفسر لنا الدفاع عنها تاريخياً من قبل كل هذه الطوائف. واحتاجت الفكرة لبنية مؤسسات في أشكال متعددة كالأحزاب والمنتديات، فظهرت أحزاب البعث العربي في العراق وسوريا، والاتحاد الاشتراكي في مصر، والفكر الناصري الذي جعل من العروبة والدفاع عنها فكرة محورية.

لقد ارتبطت فكرة العروبة تاريخياً بالنضال والتحرر من الاستعمار الأوروبي البريطاني والفرنسي والإيطالي الذي قسم الدول العربية ووضعها تحت سيطرته. وتوجت مرحلة النضال السياسي بتأسيس الجامعة العربية كنواة وترجمة للعروبة، وتحولها من مجرد فكرة وانتماء إلى شكل مؤسساتي الهدف منه تحويلها إلى واقع ملموس، يشعر به كل من يقيم في هذه المنطقة. ومنذ البداية جاءت الجامعة العربية ضعيفة غير قادرة على تطوير الفكرة العربية إلى مرحلة التكامل والاندماج، فسيطرت فكرة القُطرية العربية على عمل الجامعة العربية، وكان لها الأولوية على أي قرار عربي عام. وبعبارة أخرى، امتلكت الدولة العربية القطرية حق «الفيتو» على أي قرار عربي مشترك. وهنا الإشكالية المزدوجة للعمل العربي المشترك التي لعبت وما زالت تلعب دوراً كبيراً في تراجع فكرة العروبة كهوية مشتركة. الأولى التأصيل لظاهرة القُطرية العربية؛ إذ أولت الدول العربية بعد استقلالها جل اهتمامها لبناء مؤسساتها الداخلية، وتبني سياسة التقوقع الذاتي، وأقصيت الأقليات الأخرى المكونة للدولة وهي جزء أصيل منها، وليست وافدة، وهمشت دائرة الحقوق.

وبدلاً من تبني سياسات الاندماج المجتمعي والسياسي لجميع الأقليات، من خلال توسيع منظومة الحقوق والمشاركة السياسية، والتأصيل لمفهوم المواطنة الواحدة، بقيت هذه الأقليات منبوذة تنتظر لحظة الانفكاك والمطالبة بالاستقلال، والأمثلة اليوم كثيرة في العراق وسوريا وغيرهما.

والإشكالية الثانية، ضعف عمل الجامعة العربية في تدعيم فكرة المؤسساتية العربية المشتركة، وإن كان نجاح الجامعة العربية في المجالات الثقافية والتربوية يحسب لها، وأسهم إلى حد كبير في الحفاظ على الهوية العربية، لكنها فشلت مقارنة مثلاً بالاتحاد الأوروبي الذي نجح في تحقيق درجة متقدمة من الاندماج، ومما زاد الأمور تعقيداً، ما شهدته المنطقة العربية مما يسمى «الربيع العربي» الذي جاءت تداعياته سلبية على مفهوم العروبة، فمن ناحية برزت مظاهر جديدة من الصراعات المذهبية، وتنامى دور الجماعات الإسلامية المتشددة، مما أدى إلى ضعف واضح في بنية الدولة القُطرية، ما أسهم في زيادة التدخلات من قبل القوى الإقليمية الداعمة لمطالب الأقليات بالاستقلال، وهنا بدأت تظهر مشاريع التفكيك السياسي في العراق وسوريا وغيرهما من الدول، كما زادت الحروب والنزاعات الداخلية التي تورطت فيها دول أجنبية لتضعف مشروع العروبة، في مقابل مشاريع إقليمية «إسرائيلية» وتركية وإيرانية.

وعلى الرغم من هذه السلبيات، فإن فكرة الهوية العربية تبقى هي المخرج والبديل للمشاريع الإقليمية. ويبقى المشروع العروبي هو الحل، ولكنه يحتاج إلى مراجعة نقدية، ودعماً لعمل مؤسسات العمل العربي المشترك، الممثلة في الجامعة العربية، وإلى التفكير في إعادة بناء المنظومة العربية بما يواكب التهديدات والتحديات الجديدة، وإلى مزيد من الإصلاح والحكم الرشيد الذي يتيح لكافة المواطنين الإحساس بالمواطنة كهوية جامعة مشتركة، وهذا يحتاج إلى عمل عربي مشترك.

*استاذ علوم سياسية - غزة