«نزل الذرة الصفراء»، هو عنوان الرواية الصادرة حديثاً عن دار الأهلية للنشر والتوزيع في العاصمة الأردنية عمّان، للروائي الشاب أنس أبو رحمة، وتم الاحتفال بإطلاقها، قبل أيام، في متحف محمود درويش بمدينة رام الله.
والرواية التي صنفها أبو رحمة على أنها «رواية لليافعين»، مهداة إلى «لبنى»، واختار كاتبها المقطع التالي لتكون الغلاف الخلفي لها «طقطق الورق الناشف تحت قدميها، وغردت عصافير من فوق الأشجار فنظرت مينا صوبها.
فجأة سمعت خطواتي فالتفتت بسرعة، لكنني اختبأت في اللحظة المناسبة فواصلت مشيها. بعد خطوات قليلة توقفت أمام شجرة بلوط قديمة وكبيرة، تلفتت حولها ببطء، ولما لم تر شيئاً غريباً همست بصوت خفيض: سي، مي، سو، نا، وكررت: سي، مي، سو، نا، بعدها صمتت وعيناها مثبتتان إلى أعلى الشجرة، ثم أطل رأس غريب، بعينين متعبتين، من بين الأوراق.»
وأشار أبو رحمة إلى النقص الكبير في حقل أدب الأطفال والفتيان، رغم تميز تجربة الكاتب محمود شقير، والكاتبة أحلام بشارات، وغيرهما .. وقال: لا أنكر أنني كتبت الرواية لأستمتع فيها أولاً، ولا أنكر أن البطل في الرواية هو المكان قبل أية شخصيات، وهي هنا حقول الذرة الصفراء، إضافة إلى مينا الأخت الصغيرة لشقيق في السادسة عشرة من عمره، هو السارد لبطولات شقيقته، على عكس السائد من احتفال الفتيات الصغيرات بالأخوة الأكبر، على مختلف المستويات، وهنا كان السرد الاحتفالي المغاير للسائد من قبل الفتى، الذي تحتاج منا عملية حساب عمره إلى تحليل نص الرواية، والذي هو بلا اسم بشقيقته الصغرى، عبر محاولاته الدائمة للتلصص على دفتر وصفاتها المخبرية، إن جاز التعبير.
وأضاف: المغامرة الكبيرة للفتاة مينا، هي أنها تربي الأسد الأخير المتبقي في الجبال، وهو مسن على حافة الموت، عبر سعيها لاختراع محلول يبقيه أطول فترة ممكنة على قيد الحياة، ليتسنى لها عندما تكبر أن تجلب له، عبر الباخرة، لبؤة، تتزاوج وإياه، وينجبان أسوداً يحافظون على سلالته ومن فنوا من أترابه وأقربائه، إن جاز التعبير، على يد الصيادين، وفتك فوهات بنادقهم برصاصاتها.
رواية مكتملة
ووصف الروائي أكرم مسلم رواية «نزل الذرة الصفراء» لأنس أبو رحمة، بـ»الرواية المكتملة، بكل ما تحمله الكلمة من معنى»، كاشفاً أن بداية علاقته بأنس، كانت حين تلقى ذات يوم قصيدة منه، وكان لا يعرفه، على البريد الالكتروني، لنشرها في جريدة «الأيام»، حيث يعمل مسلم محرراً، مستذكراً أن القصيدة كانت تتقمص النبي يعقوب وتسرد ألمه على يوسف على نحو مدهش، متذكراً ما قاله أبو رحمة في القصيدة على لسان يعقوب الضرير: «أنت العين وما ترى .. أنت القصيدة والأثر» .. وأضاف مسلم: كانت هذه الجملة الشعرية كافية بأن تكشف أن كاتبها هو مشروع شاعر حقيقي، يمتلك الشعور الواضح بالمسؤولية تجاه اللغة، ويعرف ما الذي يفعله، لافتاً إلى أنه كان من المعجبين بالمجموعة الشعرية الأولى للشاعر والروائي أبو رحمة بعنوان «الحجاب»، قبل أن يتجه مؤخراً إلى عالم الرواية، وبالتحديد الروايات الموجهة إلى جيل الفتيان من كلا الجنسين بطبيعة الحال.
وحول الرواية بدأ مسلم حديثه متطرقاً إلى عنوانها «نزل الذرة الصفراء»، فقال: أحالني العنوان بداية إلى رواية «الذرة الحمراء الرفيعة» للروائي الحائز على جائزة نوبل، الصيني مو يان، وتساءلت حول هذا التشابه، ووجد تنافذا بين الروايتين فيما يتعلق ببطولة الذرة وإطلالها المتواصل لتضيء المشهد السردي، لكنني وجدت عالمين مختلفين، فرواية مو يان تتحدث عن حقبة مظلمة في التاريخ الصيني، والاشتباك مع الاحتلال الياباني للصين، وهي رواية مبدعة على المستوى الجمالي، لكنها مؤلمة أيضاً، وشرسة ودموية في كثير من الأحيان.. في رواية أبو رحمة للذرة على مدار الرواية حصة واضحة من البطولة، وهي تمسك بالمشهد البصري للرواية، لكن أجواءها حميمة وهادئة وحالمة تتناسب مع الجملة الختامية لها: «كتب هذه الرواية وأنا نائم».
ووجد مسلم «تنافذا» ما بين رواية أبو رحمة، ورواية «عرس الشاعر» لأنطونيو سكارميتا، والذي يتحدث فيها عن محو إحدى الجزر القريبة من إيطاليا-جزيرة ميليسيا- عن الخريطة في الحرب العالمية الأولى، وكان أحد أبرز أسباب انهيار هذه الجزيرة تلك الدودة التي ضربت محصول العنب، عصب الاقتصاد لسكانها، لافتاً إلى أن العمل الجيد هو من يستطيع الصمود أمام القراءات الجادة، ويتمكن في الوقت ذاته من استحضار أعمال روائية إنسانية ناجحة إلى المخيلة.
وحول عناصر القوة في الرواية، قال الروائي أكرم مسلم: ما ميز رواية «نزل الذرة الصفراء»، هو بداية ما قام به الروائي فيما يتعلق بعالم الرواية، حيث اختلق هذا العالم بالكامل بأجوائه وشخوصه وجغرافيته وأزمنته، بحيث يمكن إسقاطه في أي مكان في العالم .. المكان الفلسطيني واضح، ولكنه لا يحمل اسماً محدداً ما جعله مفتوحاً على كافة الاحتمالات.
وأضاف مسلم: عنصر القوة الآخر في الرواية هو الشعور بالمسؤولية تجاه اللغة، حيث تشعر أن ثمة زهداً مدروساً في لغة الرواية التي تعبر عن ملامسة حقيقية للأمور، وهذه الطريقة في الكتابة تتعامل مع اللغة كرافعة للحكاية، وليس كساتر بلاغي يغطي الفقر المعرفي والرداءة الجمالية.. لغة الرواية تنم عن خبرة لدى كاتبها في الطريقة التي تعاطى فيها مع اللغة، فلكل جملة موقعها المدروس، والذي لم يأت اعتباطاً، علاوة على الدخول المباشر إلى موضوع وأجواء الرواية، دون مقدمات لا ضرورية أو فذلكات لا داعي لها، وهذا لافت منذ الفقرة الأولى .. وهذه المباشرة تنم عن معرفة الروائي للمادة التي «يشتغل عليها».
ومما لفت مسلم في الرواية، تعاطيه مع الخرافة، والخيط الرفيع ما بينها وبين الواقع، والمتخيل هنا ليس الخرافة بمعناها اللاواقعي، بل هي الأقرب إلى ما نطلق عليه بالعامية الفلسطينية «الخرّيفية» .. وأضاف: أنس استدرج «الخراريف»، أو جوهر الخرافة الفلسطينية، بشكل ما معصرن ولافت، كما دفع بالواقع إلى منطقة «الخراريف»، بطريقة فيها من الذكاء والخفة ما يدعو إلى الإعجاب والدهشة.
وأردف مسلم: هذا كله يضاف إلى الحساسية الاخلاقية العالية في الرواية، حيث ينحاز بوضوح نحو المساواة عبر منح مساحة منصفة للبنات، مساحة في الحكاية وفي الحيز العام حيث تتحرك الشخصيات، في الوقت الذي نلاحظ فيه غياب هذا الانتباه في المناهج الفلسطينية التي كثيرا ما تحبس البنت في البيت.. هذا الانحياز القيمي مهم في عمل يخاطب فتيانا في مطالع الوعي، بعيداً عن التنميط، فالفتاة مينا هي بطل الرواية، ولها مساحتها وحيزها الحاضران في الحيز العام، وهو وجود تلقائي وغير متكلف، وأصيل، نابع من صلب العمل.
بدورها فضلت الكاتبة والشاعرة أحلام بشارات، وهي من المتخصصات في أدب الأطفال والفتيان أيضاً، تقديم مداخلة وصفتها بالإنسانية وليس النقدية، متحدثة عن عائلة الكاتب، مؤكدة «في قلب الوحيد يعيش الشاعر، ومن بين أفراد العائلة تخرج الرواية .. نصيحتي: إن كنتم تريدون أن تكونوا شعراء ابقوا وحيدين، وإن رغبتم في كتابة الرواية تزوجوا» !
كما تحدثت بصورة أدبية رشيقة عن صداقتها وأنس أبو رحمة، وعن مينا، الشخصية الرئيسية في الرواية، وأحاديثه الهاتفية معها حول أوضاع «الناس في البلد»، حيث كان يعيش وقتها أنس مفردات الشاعر: الوحدة، الخوف، الحب، والكراهية، والتعب، وكان ذلك قلب الشاعر: الوحيد، الخائف، الشاك، الهارب»، معبرة عن خوفها المجازي «حين يتأخر الشعر عن كائناته».
ووصفت بشارات «مينا» بالخارقة، والواثقة، والشاعرة .. «شعر مينا في هذه الرواية عجوة الثمرة، أما الرواية فهي ثمرة الزعرور، يأكلها القارئ وهو يعدّ النجوم»، خالصة إلى أنه «لولا الشعر لما وجدتم نزل الذرة الصفراء بين أيديكم التي تحررنا من الواقع، الذي بلا شك كان سيقف عائقاً أمام خفة الكاتب، وأمنيات القارئ، حيث نجح أنس في منح القارئ تذكرة عبور إلى عالم جديد أبدع في اختراعه».
و يبقى أن نشير إلى أن أنس أبو رحمة، وفي رد على سؤال لـ "أيام الثقافة"، اعترف بصعوبة ترويج مثل هذه الأعمال بين الفتيان، في زمن ابتعدوا فيه عن القراءة، وبات بينهم وبينها حالة من الجفاء، قد تصل في الكثير من الأحيان إلى القطيعة، باتجاه الالتصاق أكثر فأكثر بتقنيات العصر (الوسائط التكنولوجية بتنوعاتها)، مشدداً على أن هذه المهمة الصعبة تتطلب تعاون الجميع، وخاصة الكتاب والناشرين ووسائل الإعلام والمؤسسات الرسمية والأهلية ذات العلاقة، وذلك بهدف إعادة القراءة إلى قائمة اهتمامات الأطفال والفتيان في فلسطين، مشدداً على أنها معضلة عالمية، وموجهاً الشكر للدار الأهلية للنشر والتوزيع في العاصمة الأردنية عمّان، ومديرها العام الناشر أحمد أبو طوق، لحماسته لهذا النوع من الروايات، مع الإشارة إلى أن أبو طوق كشف لـ"أيام الثقافة"، أن نشر رواية «نزل الذرة الصفراء» الموجهة للفتيان، تدشن مشروعاً لـ"الأهلية" يقوم على نشر عشرات الروايات المخصصة للأطفال والفتيان، والعربية منها على وجه الخصوص.