وما أدراك ما «كورونا»

حجم الخط

بقلم هاني عوكل

 

منذ تفشيه أربك فيروس «كورونا» البشر وأقلقهم بشكل كبير، إلى درجة أنه أخذ مساحةً في العالم فاقت كل الصراعات بين الأمم والدول، ولم يعد حديث الناس في الشارع وكذلك الأخبار والتقارير سوى موضوع «كورونا» ومخاطره على الأمة.
الكثير من الدول اتخذ إجراءات تصاعدية لمنع تفشي المرض كما يحصل الآن مع إيطاليا وإسبانيا وإيران، وأخرى فرضت حظراً للتجوال وعقمت الشوارع والأماكن العامة للحد من انتشاره، غير أن الأرقام والخسائر البشرية تشي بأن الفيروس سيحصد المزيد من الأرواح.
الدول تداعت لتخصيص مليارات الدولارات من أجل منع توسع رقعة انتشار الفيروس، في حين ضغط هذا الأخير بقوة على اقتصادات الدول وأرغمها على اتخاذ إجراءات سياسية ونقدية لفرملة التدهور الاقتصادي والعجز في كثير من مرافقها.
بعض السياسات التي اتخذتها دول عديدة لا يمكن أن توقف انتشار «كورونا» في مدنها، والأمر يتعلق بطرق المعالجة وهي طرق وقائية واحترازية تتصل بمنع التجمعات ووقف الأنشطة وحركة السياحة وكذلك منع إصدار التأشيرات وخلاف ذلك.
هذا أمر جيد ولا بأس فيه، خصوصاً أن انتقال الفيروس سريع للغاية بين البشر، ويكفي أنّ شخصاً واحداً مصاباً بالـ»كورونا» يمكنه أن ينقل العدوى إلى كل من حوله، وبالتالي تتوسع بؤرة العدوى وتتفشى بطريقة جنونية، ولذلك تحتاج المعالجة استحداث أفكار تتجاوز الإجراءات الوقائية.
الـ»كورونا» يشبه في سرعة انتشاره العولمة، وهو قادر على غزو أمة كاملة، بدليل أنه حوّل مدناً كبرى إلى أشباح، ولذلك يتطلب الأمر تضافر مختلف الدول لمواجهة هذا المرض وإيجاد اللقاح المطلوب بأقصى سرعة ممكنة.
الصين التي تصنف على أنها مصدر «كورونا»، اتخذت إجراءات صارمة لردعه وأفلحت في ذلك وحققت إنجازات لمنع انتشاره، لكن حصل ذلك بعد أن انتقل الفيروس بالفعل إلى معظم دول العالم، وها هي بكين الآن تعرض خبرتها الطبية والوقائية لمساعدة البلدان مثل إيطاليا على وقف توسع «كورونا».
دون لقاح من الصعب الحديث عن نهاية لفيروس «كورونا»، لكن بتوفر العديد من العوامل يمكن الحد من انتشاره، إذ عدا أهمية وجود مظلة دولية تتخذ إجراءات سريعة وحازمة لمساعدة الدول الفقيرة على وقف توسع الفيروس، فإن المطلوب من الدول زيادة الإنفاق لتطويقه.
المقلق أن المرض لا يؤثر في سلامة الصحة العامة فقط، بل إنه يضرب بقوة كل عناصر الاستقرار والأمن، والخوف أن يكسر رأس اقتصادات العديد من الدول إذا لم تحسن بالفعل التعامل مع الفيروس وتتمكن من حصره فقط في الجانب الصحي.
لنا أن نتخيل كيف يمكن لفيروس مجهري أن يؤثر في خارطة اقتصادات دول العالم، والحديث يتعلق هنا بممارسة الأنشطة التجارية عن بعد، أي أنها أنشطة إلكترونية لا تتطلب تبادل المعاملات التجارية بين الأشخاص بالحضور.
الفيروس فرض على العالم الذي هو بمثابة قرية كونية أن يتحول إلى دول وجزر معزولة، وحتى في المنازل وضع الناس في بيوتهم وخلق مفهوم الجلوس القسري، أي أنه انتشر كما انتشرت العولمة وتدفقت حركة السلع إلى الناس، وفي نفس الوقت مارس عليهم سلطة التباعد والانعزال.
أولاً عن آخر سيطوق هذا الفيروس باللقاح الذي لا يدري أحد في أي وقت قد يدخل إلى الأسواق العالمية، وثمة دول ستصعد على حساب أخرى، وهناك آلاف الوظائف التي ستحال إلى التقاعد وفي مقابلها سيخرج الكثيرون من سوق العمل.
النمو العالمي الآن يشهد تراجعاً كبيراً بفعل «كورونا»، وثمة دول ستخسر عشرات المليارات من الدولارات، وأغلبها دول نامية وتفتقر إلى البنية التحتية الإنتاجية المحلية، وفي المقابل ستشهد الأعوام المقبلة تطوراً في مفهوم الشراء عن بعد.
في كل الأحوال كانت حركة الشراء الإلكتروني تنشط عبر العالم، وموقع أمازون العالمي على سبيل المثال سيطر على نسبة كبيرة من حركة السوق الإلكتروني خلال السنوات القليلة الماضية، والذي غير من العادات الشرائية بالنسبة للملايين من البشر.
عدا الخوف من «كورونا» إلى درجة الهلوسة، الخوف كل الخوف أن يستثمر العديد من الدول القلق الحاصل بفعل الفيروس والتركيز عليه كل الوقت في تمرير سياسات عنصرية وأخرى سلطوية على الدول والشعوب من حولها.
إسرائيل الآن تمضي في مشروعها الاستيطاني في الضفة الغربية وهي بـ»كورونا» ودونه تأكل الأخضر واليابس، ولو أرادت الآن استيطان الضفة بالكامل ربما لن يردعها أحد، لأن العالم منشغل بأولوية هذا الفيروس الذي يستنزف كل طاقاته.
بصرف النظر إن كان هذا الفيروس مستحدثاً أو إنه خرج من رحم الطبيعة، إلا أنه هدد الأمن السلمي والصحي وضغط بقوة على المجتمعات، وإذا أخذ مداه أكثر من ثلاثة أشهر فإنه قد يطيح باقتصادات الدول النامية وغير النامية، لكنه مع ذلك وضع العين على خارطة الخدمات الإلكترونية ومستقبلها.
أغلب الإجراءات الاحترازية والوقائية والمستعجلة طبقت منذ ما يزيد على عشرة أيام وحتى أواخر الشهر الجاري، وهذا يشمل حركة التنقلات وتوقف مسار مئات الرحلات الجوية، وإذا زادت هذه الإجراءات على حدها وتجاوزت شهر آذار إلى نيسان وبعده، فعلى الأغلب أن تنهار دول وتعاني عجزاً اقتصادياً يعرقل مسار تقدمها.
وعلى الصراعات الدولية الحاصلة الآن والمناكفات بين المجتمعات المتعلقة بأنانية المصالح أن توضع جانباً، وأن تتولى الأمم المتحدة مسؤولية الحفاظ على أمن الدول والمجتمعات باعتبارها حكومة العالم.