النظام العالمي في زمن الـ"كورونا"

مهند عبد الحميد.jpg
حجم الخط

مهند عبد الحميد

مع اشتداد جائحة "كورونا" وانتشارها في معظم دول العالم وقاراته، تتكشف الأزمة العميقة للنيو ليبرالية العالمية وللنظام العالمي بمختلف مكوناته.
ففي هذه الأيام والأسابيع نشهد الاختلالات الفادحة التي لم تكن وليدة غزو "كورونا"، واقع الحال كان الاقتصاد العالمي يترنح في أزمات متلاحقة إلى أن جاء فيروس "كورونا" ليفاقمها ويضفي عليها طابع الشمول ويقدم النظام الكوني بوجهه العاجز عن إيجاد الحلول، فلم يكن من باب الصدفة أن يقدم خبراء النيو ليبرالية نماذج ترامب وجونسون ومن لف لفهما من حكام وإدارات شعبوية عنصرية للخروج من الأزمات الطاحنة، فكانت النتيجة توحشا سياسيا واقتصاديا وعسكريا.
التأثير الكبير الذي جلبه مرض الكورونا للنظام العالمي تجلى:
أولاً: النظام الصحي شهد مستوى متفاوتا من الانهيار والعجز بدءا من غياب أو ضعف تدابير السلامة العامة، مرورا بنقص الأدوات كأجهزة التنفس الصناعي والكمامات ونقص في وحدات الاختبار وغرف العناية الفائقة والمعقمات والأقنعة، فضلاً عن تأخر الإجراءات الوقائية، وتأخر اكتشاف الطعم الذي يستغرق وقتا طويلاً.
وعدم امتلاك أعداد ضخمة من مواطني العالم الأول للتأمين الصحي، على سبيل المثال يوجد 28 مليون أميركي دون ضمان صحي، كما أن مستشفيات القطاع الخاص في العديد من البلدان لا تعالج المصابين من غير الأثرياء بفيروس "كورونا" وتحولهم إلى مستشفيات القطاع العام.
كما يلاحظ يحصد المواطنون وبخاصة من الفئات الشعبية أعباء جائحة الـ"كورونا" بفعل المآل الذي وصل إليه نظام الرعاية الصحية الذي تعرض إلى تقليص موازناته سنة بعد سنة، وأدى التقليص إلى "تخفيض عدد الأسرة بنسبة 24 - 30% في المستشفيات وتخفيض عدد العاملين في الجهاز الصحي. إن إضعاف نظام الرعاية الصحي الحكومي كان لصالح القطاع الخاص الذي لا تقدر النسبة الأكبر من الناس من التطبيب فيه.
عندما يقف القطاع الصحي في العالم الأول المتقدم عاجزا أمام انتشار مرض "كورونا" حيث يزيد عدد الوفيات بنسبة 20- 30 % يوميا، فإن القطاع الصحي المتواضع بإمكانياته وبمستواه في العالم الثالث (كالهند وباكستان ومصر وإفريقيا وأميركا اللاتينية وبلدان أخرى لا يستطيع التعامل مع انتشار المرض وستكون نتائجه مأساوية وعدد الوفيات سيكون أضعافا مضاعفة. تجربة إيران مع الـ"كورونا" قدمت نموذجا للخطر القاتل الذي يهدد هذا البلد. لهذا السبب فإن ما تملكه هذه الدول المتأخرة صحيا واقتصاديا هو إجراءات الوقاية المكثفة التي تقطع الطريق على انتشار الكورونا.
ثانياً: الاقتصاد العالمي يشهد أزمة بمستوى أشد من الأزمات السابقة ومن المظاهر الأولية لذلك، الدخول في ركود اقتصادي آخذ بالتعمق طالما لم يتم قطع الطريق على انتشار الـ"كورونا". وكلما طال أمد المرض وازداد انتشارا تعمقت الأزمة.
فقد شهدت أسواق الأسهم انخفاضات حادة. وتأثرت الصناعة الكبيرة بسب إغلاق الأسواق وانخفاض الاستهلاك. وأثرت إجراءات الإغلاق ووقف حركة التنقل بين البلدان على قطاعات السياحة والخدمات كالمطاعم والفنادق والمقاهي وحركة الطيران والمواصلات العامة والخاصة، وكذلك قطاع البناء، ولا يسلم القطاع الثقافي كالسينما والمسرح والرياضة والصحافة من تأثيرات الأزمة.
الشركات والمعامل والورش الصغيرة وبخاصة في بلدان العالم الثالث والعمال المياومون وهم الفئات الأوسع من العمال، تلك الشركات تضررت أعمالها وأصبحت غير قادرة على مواصلة العمل في ظل ركود الأسواق وإجراءات منع التجول الذي لا يستثني حرية الحركة والتنقل لهذا الصنف من العمال، ويقتصر الاستثناء فقط على عمال الإنتاج الكبير.
التوقف عن العمل في تلك القطاعات سينعكس على نسبة البطالة المرشحة للزيادة، حيث تتوقع منظمة العمل الدولية انضمام 25 مليون عامل إلى جيش العاطلين عن العمل.
إزاء ذلك فقد حاولت الحكومات التي ترعى مصالح الشركات الكبرى التعويض عن الخسائر، كما فعل الاتحاد الأوروبي حين قام "بتأسيس صندوق بقيمة 25 مليار يورو. وفشلت إدارة ترامب في تمرير مشروع قانون بقيمة 2 ترليون دولار للأسواق لتخفيف خسائر الـ"كورونا"، الديمقراطيون في مجلس الشيوخ أفشلوا القرار لأن هدفه غير المعلن هو حماية المؤسسات الكبرى كما قالوا.
غير أن البلدان الهشة اقتصاديا والمتورطة في نظام ديون متراكم لا تضع خططا لتعويض الخاسرين الذين لا يملكون إلا قوة عملهم، ويعانون كثيراً وسيعانون أكثر في حالة إطالة مدة توقفهم عن العمل.
منذ توقف السياحة وإغلاق المطاعم والفنادق والمقاهي في العديد من البلدان ومنها فلسطين، ذهب العاملون إلى البيوت، ومنذ توقف جزء من العمال خلف الخط الأخضر وعمال المستوطنات إضافة للورش والمعامل الصغيرة ومكاتب القطاع الخاص، ازداد عدد العاطلين وتوقف مصدر رزق هؤلاء وأصبحوا بلا عمل.
إن بقاء هؤلاء بلا عمل سيؤدي إلى تشوش المجتمعات وعدم استقرارها. ما يستدعي الالتفات الى أهمية إعادة توزيع الأعباء بحيث تشمل الرأسمال الكبير.
فلا يُعقل مفاقمة التوزيع غير العادل للأعباء. حكومة د. محمد شتية التي نجحت في الإجراءات الوقائية وتعاملت بمسؤولية مع تحدي جائحة الـ"كورونا"، مطالبة بالتوقف عند مسؤولية توزيع الأعباء وتأمين الحد الأدنى للخاسرين الذين يزداد عددهم باطّراد، بما في ذلك مطالبة دولة الاحتلال بدفع تعويضات للعمال الذين لم يسمح لهم بمواصلة العمل.
ثالثاً: الـ"كورونا" وضعت حتى الآن أكثر من مليار نسمة تحت سيطرة أنظمة الطوارئ، بل وضعت العالم برمته أمام تحديات مصيرية، من ينجح ومن يسقط في مواجهة التحديات، وأي منظومة قيم ستسود، الجائحة أعادت تقييم الحكومات والقوى المهيمنة والأولويات.
عندما تنجح دولة بإبداع أساليب وتكنولوجيا متطورة ومنظومة قيم إنسانية في الفوز على تحدي الكورونا ينشأ وضع جديد.
المنتصرون في الحرب العالمية الثانية هزموا الخطر النازي فأنشؤوا نظاما عالميا جديدا استند إلى تعدد الأقطاب لكنه انهار.
الآن من يهزم مرض الـ"كورونا" لا شك في أنه سيؤسس لنظام عالمي جديد. الصين قطعت شوطا في المواجهة ولكن تنقصها منظومة القيم الإنسانية، فلن ينهار النظام الدولي القائم على هيمنة قطب واحد، إذا لم يهزم قيميا إلى جانب فشل توحشه السياسي والاقتصادي.
قد يمدد النظام الدولي الفاشل سيطرته بإعادة التقاسم الجزئي بين أقطابه لكنه لا يستطيع إحداث التغيير بمعزل عن الخروج من منظومة الاستبداد والتوحش والتفرد.
أكثرية الشعوب التي دفعت ثمن الاقتصاد النيوليبرالي وأزماته الطاحنة، وتدفع الآن ثمن جائحة الـ"كورونا"، غير مقررة الآن في عملية التغيير، لكنها جزء أساسي من عملية تغيير النظام الدولي ما بعد انطفاء الـ"كورونا".