غانتس أدار، بنجاح، إحدى الخدع الكبرى في تاريخ السياسة الإسرائيلية

حجم الخط

بقلم: حيمي شليف


المرحوم رحاميم كلنتر يمكنه أخيرا أن ينام براحة. فانشقاقه عن قائمة «العامل الشرقي» مقابل تعيينه نائبا لرئيس بلدية القدس في العام 1956 حوّل اسم كلنتر الى شتيمة في السياسة الإسرائيلية، في عهد كان لا يزال فيه لنا تفاخر باستقامتها. وبعد اربعين سنة على وفاته وبعد نسيانه أخيرا قام له وريث هو بني غانتس، أبو الغانتسية.
يمكننا السماح لغانتس بالاستمتاع بالرضا، حتى لو كان ذلك بصعوبة. فهو لم يقم بخيانة ناخبيه من أجل الكرسي، وحقيبة الخارجية التي خصصت كما يبدو له تناسبه مثل حقيبة الثقافة لميري ريغف، خاصة في الأيام التي تتركز فيها العلاقات الخارجية على شراء المعدات الطبية واعادة الإسرائيليين العالقين في الخارج. ومن المعقول اكثر الافتراض أن غانتس لم يصمد أمام توسل بنيامين نتنياهو للإسهام في تحمل العبء. وقد نفذ المقولة المشهورة لصموئيل جونسون، لكن مع انحراف: وطنية غانتس تبين أنها الملاذ الاخير للمتهم من بلفور.
لا يستحق غانتس إدانة دوافعه حتى لو كانت غير صحيحة وحتى لو تبين قريبا أن مصيره مثل مصير من يصدقون بنيامين نتنياهو وساروا معه وتم ابتلاعهم وهضمهم ورميهم على قارعة الطريق. سجلّ غانتس في خدمة الوطن يمنحه ما يكفي من الفضل من اجل التصديق بأن خطابه الافتتاحي، أول من أمس، بصفته رئيسا للكنيست يعكس الايمان الصادق بأن الأمر يتعلق بوضع طوارئ حاسم يحتاج منه التنازل عن كرامته وأن يساعد رئيس الحكومة، حتى ذاك الذي وصفه حتى الأمس، بأنه شخص مخادع ومخرب للديمقراطية ومن كان مستعدا، حسب رأيه، لأن يقتله حقا.
الكثيرون ممن خاب أملهم من غانتس لا يستطيعون ايضا الادعاء بجدية بأنه قام بخرق وعوده، التي تعززت وضعفت، بأنه لن يجلس في حكومة برئاسة نتنياهو. وقد وعد غانتس ايضا بأنه لن يعتمد على «القائمة المشتركة»، ولكنه نكث وعده، أو على الاقل مده حتى النهاية، بعد بضع ساعات على اغلاق صناديق الاقتراع. وقد حظي بالهتاف من المعسكر الداعم لدمج الاقلية الفلسطينية في ادارة الدولة، التي ضاءلت التذمر من نكث وعوده للناخب. وفي صالحه يسجل أنه حطم مسلمات وحواجز لدى ناخبي الوسط الكثيرين ممن ساروا حتى الآن وراء زوج المقاطعين للعرب في قائمته، هندل وهاوزر.
مع ذلك، بعد أن أعطوه التسهيلات على استقامته وصدقه وطهارة دوافعه، فإن غانتس أدار، مؤخراً، إحدى الخدع الكبرى، وبالاساس الخدع الوحشية في تاريخ السياسة الإسرائيلية. بعد جولة انتخابات فاشلة ونتائج أظهرت في البداية فشلا ذريعا قام غانتس مثل طائر الرمال وتحول بصورة متعمدة أو عن طريق الخطأ الى الرائد العنيد الذي طمح اليه معسكر مؤيديه. ولو أنه تصرف هكذا قبل أي جولة من الجولات الانتخابية، التي تنافس فيها، ربما كانت نتائجها ستكون مختلفة تماما.
في الـ 25 يوما التي مرت منذ 2 آذار فإن غانتس المخادع والمتردد كما يبدو، فعل المستحيل. فقد ربط بين افيغدور ليبرمان وأيمن عودة، وأوجد معهما كتلة سياسية، حتى لو كانت مؤقتة، لم تكن لتخطر ببال أحد قبل ذلك. بعد هزيمة موضوعية في صناديق الاقتراع قلب غانتس الامور واصبح أول من يحصل على التفويض من الرئيس. وقد حارب ضد نتنياهو في كل الجبهات، ووضع نفسه درعاً للديمقراطية وحصل في هذا الاسبوع على الفوز بالضربة القاضية في معركة الصد الحاسمة ضد محاولات نتنياهو الانقلاب ومحاولات خادمه يولي ادلشتاين في الكنيست.
معسكره كان محلقا. والاحباط الذي كان قبل الانتخابات واليأس الذي جاء بعدها على الفور انقلبا أملا جديدا غريبا لدى اليساريين القدامى ممن يقولون إنه رغم كل شيء إلا أن هناك أملا آخر. ونضال غانتس وأصدقائه في «ازرق ابيض» ضد عمليات التدمير غير الديمقراطية التي يمارسها نتنياهو أثار في الوسط – اليسار الروح القتالية التي كانت تظهر لكثيرين بأنها انطفأت منذ زمن.
أخيرا، تخيلوا نتنياهو الساحر، الذي يمكنه فعل كل شيء، صاحب الخدع في السياسة الإسرائيلية، واجهه حاجز لا يمكن اجتيازه. بداية عمل لجان الكنيست، أول من أمس، رغم أنف ادلشتاين ونتنياهو كانت مثل نسمة منعشة. شقُّ الطريق لانتخاب بديل عن ادلشتاين تقريبا عمل على أن ننسى ولو لحظة وباء كورونا الذي يتفشى في الخارج.
عندها جاء السقوط الذي كان أكثر ايلاما بسبب النشوة التي سبقته. ففي حين كان معسكره يهتف بانفعال لانجازاته في ساحة القتال، تبين فجأة أن غانتس من خلف الكواليس كان يجري مع نتنياهو مفاوضات في مراحل متقدمة حول حكومة وحدة وطنية، في هذه الظروف تظهر لكثيرين في معسكره مثل وثيقة استسلام مخجلة. وبالضبط عندما كان يبدو أنهم بدؤوا يشاهدون نهاية نتنياهو قام غانتس وقدم له جهاز التنفس الذي اعاده الى الحياة، والذي سيبقيه في مكتب رئيس الحكومة على الاقل في المستقبل القريب.
لم يخدع غانتس فقط معسكره بصورة ضمنية، بل بصورة صريحة. فقد تركه محبطا ويائسا. لقد ملك قلب المعسكر عندما لم يكن أحد يتوقع ذلك، وبعد ذلك حطمه على صخرة الواقع. كل صوت أُعطي، أول من أمس، من اجل انتخاب غانتس – بتسلئيل سموتريتش واييلت شكيد ونتنياهو وريغف – اعتبر تحديا مؤلما، غانتس قاد كتلة الوسط – اليسار الى جبل نابو في السياسة من أجل أن يشرف على «ارض الميعاد». وبعد ذلك اعلن بصورة مفاجئة مثلما هو مكتوب في سفر التثنية «لقد جعلتك تراها بعينيك، لكنك لن تصل إليها». أنا سأذهب وحيدا، الوداع.
لا يمكن الغاء احتمالية أنه من كل هذه المرارة سيخرج شيء جميل: نتنياهو سيغير جلده وسيفي بوعوده. الديمقراطية سيتم انقاذها من التحطم وسلطة القانون سيتم انقاذها من الخطر، وحكومة قوية وموحدة ستقود إسرائيل بأمان في زمن ازمة كورونا. ومن خاب املهم من غانتس واحمد الطيبي ويائير لبيد وحتى افيغدور ليبرمان مقتنعون بأن هذا فقط مسألة وقت، وليس الكثير من الوقت، الى أن يفعل نتنياهو بغانتس ما فعله بجميع الأغبياء الذين سبقوه: سيدفنه سياسيا، وسيواصل رحلته للهرب من القانون وكأنه لم يحدث أي شيء.
المناورة البيبية النهائية بالطبع هي تفجير المفاوضات بشأن الوحدة واعادة الوضع الى سابق عهده، لكن هذه المرة مع غانتس مهانا ومنبوذا ومعارضة متشاجرة ومفككة. وإذا حاكمنا، حسب أول من أمس، بالضبط هذا يمكن أن يقود الى الحل المثالي: حكومة طوارئ بتشكيلتها الحالية، ستحظى بثقة الكنيست الى حين انتهاء ازمة كورونا، وكنيست تراقب نشاطاتها كما يجب، وتجري فصلاً بين السلطات بصورة طبيعية. فجأة، في قلب «كورونا»، سنكون أميركا.

عن «هآرتس»