خليل الوزير، قائد فلسطيني من طرازٍ خاص، اكتفى من حظه في هذه الدنيا بأن عشق تراب وطنه، وبذل جهده كله ومسيرته كلها وعمره بأكمله في سبيل الحرية، فكان أن جنّدت دولة الاحتلال كتيبة عسكرية بأكملها لاغتياله، وتحقق لها ما أرادت بأن تمكنت القوة الغاشمة من تفريغ ما يزيد عن (70) رصاصة في الجسد الفلسطيني الطاهر، الذي ولد في يافا، ثم عاش في غزة، ثم انتقل إلى الدراسة في جمهورية مصر العربية، ومنها إلى الخليج العربي، وبعدها إلى الأردن، ثم لبنان، ثم كانت الشهادة في تونس، ليستقر به المقام في مقبرة الشهداء في العاصمة السورية دمشق.
يسمع الكثيرون بعبارة (أول الرصاص، وأول الحجارة)، وفي الواقع أن هذه التسمية يُنعت بها أبو جهاد، قبل أن تصبح شعاراً يخص فتح، فقد كان الرجل قائد الكفاح المسلح الفلسطيني حتى يوم استشهاده، وكان كذلك هو من تولى مسؤولية إدارة انتفاضة الحجارة، فكان أول الرصاص وأول الحجارة، وليس غريباً أن تقتحم عليه القوة الخاصة الصهيونية مقره في حي (سيدي بو سعيد) في العاصمة التونسية وهو يعكف على صياغة بيانٍ جماهيريٍ للأرض المحتلة، سطر في أول الصفحة عبارة (لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة) ليصبح شعار الجماهير في تلك الحقبة، وليس غريباً رسالته التي أبرق بها إلى أجيال فلسطين والي تزينت جوانبها بدمه الطاهر، فكان آخر من خطته يداه عبارة (لنستمر في الهجوم حتى النصر)، فقد كانت هذه فتح التي عاش أبو جهاد فيها مؤسساً وقائداً ورمزاً وطنياً ومدرسة كفاحٍ وطنيٍ متكاملة.
في ذكرى استشهاد أبو جهاد، يليق بك فتحاوي وكل فلسطيني أن يفخر بهذا القائد العبقري، الذي تمكن من الوصول إلى قلوب كل من عرفهم، وكان الأقرب لكل رجالات المقاومة الوطنية لسنواتٍ عديدة، وكان أول من تبنى القيادات الشابة في الحركة، وعمل على تأهيلها، وصقل معارفها، ومنحها الفرصة لتتقدم الصفوف في المواجهة، هذه القيادات التي أخذت على عاتقها استمرار الانتفاضة بعد استشهاد أبو جهاد، ثم تؤسس السلطة الوطنية، ثم تقود الكفاح السياسي بجوار الشهيد القائد الرمز ياسر عرفات، ثم ما تزال تحمل على عاقتها مسؤولية استعادة الوهج الكفاحي لحركة فتح، بعدما عصفت بها الخطوب، وبعدما تمكن البعض من تحويلها إلى أداةٍ وظيفيةٍ طيّعةٍ ومنكفئة على مصالح البعض، فتح التي يتوجب عليها أن تحمل اللواء دوماً بروح المقاوم الشجاع، الذي يستلهم سيرة الخالدين من شهداء الحركة والوطن، أمثال أبو عمار وأبو جهاد وأبو إياد وغيرهم، وأن تواصل الزحف في قيادة الجماهير نحو حريتها واستقلالها الوطني.
رسالة الفتحاويين في ذكرى استشهاد أبو جهاد هي ضرورة استعادة فتح، وترسيخ وحدتها النضالية، لتقود الحركة الوطنية من جديد، وتستعيد ريادتها للمشروع الوطني، لأن فتح المقسمة والضعيفة والمطواعة لا يمكن لها أن تكون أهلاً لهذا الإرث العظيم من التضحيات، ولا خيار أمام فتح إلا أن تدير ظهرها لحقبةٍ سوداء في تاريخها، تعنونت بالإذعان والتفرد والتسلط على أقوات الناس ومصائرهم، وعجزٍ سياسيٍ أفضى إلى نفقٍ مظلمٍ لم تبرحه فتح حتى يومنا هذا، ولا بديل هنا عن استلهام قانون المحبة الذي أرساه قادة فتح العظام، وكرسته أدبيات الحركة التي طال انتظار تطبيقها قولاً وعملاً، وبدون ذلك لن تكون هذه الأجيال مؤهلة لاستلام الراية والأمانة التي حمّلنا إياها أبو جهاد قبل أن يرتقي إلى العُلا شهيداً نتذكره كلما تناظرنا وطنياً بشأن مفهوم العزة والكرامة.