مستقبل الشرق الأوسط بعد انتهاء أزمة "كورونا"

حجم الخط

بقلم: عوديد عيران*

 

لم يوجِد حجم الإصابة بفيروس «كورونا» حتى الآن أزمة طبية في المنظومات الصحية في الدول المجاورة لإسرائيل في الشرق الأوسط. مع ذلك، التداعيات الأكثر خطراً هي الاقتصادية، وتلك التي يمكن أن تتجلى أيضاً في المستوى السياسي. مصدر الضرر المتراكم هو الضرر الشديد بخمسة مصادر دخل تستفيد منها دول المنطقة: نفط وغاز طبيعي، سياحة، رسوم مرور، خدمات، وتحويل أموال العاملين في دول أُخرى، في الأساس في الدول المنتجة للنفط.
انخفضت أسعار النفط في الأشهر الأخيرة إلى سعر 25 دولاراً للبرميل، وهو السعر الأكثر انخفاضاً (بعد ملاءمته مع التضخم) منذ بداية القرن. أسعار الغاز المرتبطة بسعر النفط انخفضت أيضاً. الدول المتضررة الأساسية هي المنتجة التقليدية للنفط. الشركات المنتجة للغاز الطبيعي في مصر وإسرائيل ستضطر إلى إعادة تسعير الغاز الذي يباع في الأسواق المحلية والخارجية. قطاع السياحة والخدمات المرافقة له مشلول تماماً، ومن المتوقع أن تكون عملية تعافيه طويلة جداً. مصر والأردن والمغرب وإسرائيل هي الأكثر تضرراً في هذا المجال. مصر وسورية (حتى نشوب الحرب الأهلية) والأردن ولبنان استفادوا كلهم خلال سنوات من مداخيل التجارة الدولية التي تعبر في أراضيهم من الشرق الأقصى وأوروبا وإليهما. تقلص الطلب نتيجة أزمة «كورونا» أدى أيضاً إلى تقلص الطلب في الأسواق الكبيرة والمحلية، وبالتالي إلى تقلص المداخيل. بين الدول المتضررة، تبرز مصر جرّاء انخفاض المرور في قناة السويس نتيجة تقلص التجارة الدولية والسياحة.
عشية أزمة «كورونا»، كان يعمل في دول الخليج نحو 6 ملايين مصري، وقرابة نصف مليون أردني ونحو 400 ألف فلسطيني. مليون مصري عملوا في دول أوروبا الغربية. تحويل أموال هؤلاء العاملين إلى عائلاتهم سيتضرر بشكل جذري، وسيكون له تداعيات على معدل البطالة، وانخفاض الطلب المحلي، وسيزيد العبء على منظومات مثل منظومات الصحة والسكن في أعقاب عودة ملايين العاملين إلى دولهم في الشرق الأوسط.
تواجه حكومات المنطقة، كل على طريقتها، الواقع الاقتصادي الجديد. مصر مثلاً خصصت أكثر من 6 مليارات دولار للرد على المشكلات المباشرة. معاشات التقاعد والمخصصات جرت زيادتها بأكثر من 10%، وجرى تأمين دفع رواتب في القطاعات الأكثر تضرراً، وخفضت ضرائب معينة، وجرى تأجيل تحصيل الضرائب المخطط لها. على الصعيد المالي، جرى تقليص نسبة الفائدة البنكية. تدخلت الحكومة في السوق المالية من خلال شراء الأسهم. في الأردن جرى ضمان دفع الأجور، وخصوصاً إلى العمال المياومين. كما جرى ضمان دفع أجور العاملين في القطاع العام وفي الخدمات الأمنية. من جهة أُخرى، جرى تجميد قبول عمال في القطاع العام الذي يُعتبر أكبر رب عمل في الدولة. النتيجة ستكون تخفيض الإنفاق في هذا البند، لكن زيادة في معدلات البطالة. وعلى الرغم من التزام الأردن لصندوق النقد الدولي القيام بإصلاحات ضريبية لقاء قروض ضخمة من الصندوق، فإن تطبيقها سيتأجل مع اعتراف إدارة الصندوق بالضغوطات التي تعمل الحكومة الأردنية في إطارها في الوقت الحالي. السعودية خصصت نحو 19 مليار دولار لخطة المساعدة الفورية للقطاع الخاص الذي يشكل 2.8% من الناتج المحلي الخام. وتتضمن الخطة تأجيل دفع الضرائب، والمساعدة في الدفعات لأهداف صحية، دعم سعر الكهرباء للشركات في قطاعات التجارة والصناعة والزارعة، ومساعدة المصارف كي تتمكن، بين أمور أُخرى، من الصمود في مواجهة التخلف في سداد القروض.
لكن كل هذا هو وسائل في المدى القصير، وللسنة الحالية. أيضاً يتوقع اقتصاديو البنك الدولي وصندوق النقد الدولي نمواً اقتصادياً سلبياً يتأرجح بين 3.5 % و4% في سنة 2020، أو خسارة في الناتج توازي 400 مليار دولار. توقعاتهم لسنة 2021 أكثر تفاؤلاً، 3.9% نمو في المنطقة وزيادة 4.7% في الدول المنتجة للنفط. لكن هذه التوقعات مرتبطة بعدد من العوامل غير الخاضعة لسيطرة حكومات واقتصاديات المنطقة، وعلى رأسها تعافي الاقتصادات القائدة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والشرق الأقصى. فقد وظفت تريليونات من الدولارات في خطط مساعدة فورية (الولايات المتحدة مثلاً 2.2 تريليون دولار)، وسيكون من الصعب عليها تجنيد موارد بالحجم المطلوب لإنقاذ الشرق الأوسط من التأثير المتراكم «للربيع العربي» وأزمة «كورونا». بالإضافة إلى ذلك، من المتوقع تقلص تدفق عودة الاستثمارات الأجنبية المباشرة في اقتصادات الشرق الأوسط نتيجة عدم اليقين الاقتصادي في المنطقة.
سيؤدي تقلص الموارد المالية المحلية والإقليمية إلى ارتفاع في معدلات البطالة التي كانت مرتفعة في عدد من الدول عشية أزمة «كورونا». نتيجة لذلك، سيكون من الصعب على هذه الدول الاستمرار فترة طويلة في مساعي إنقاذ الاقتصاد المحلي، وسينبعث خطر زعزعة الاستقرار السياسي لعدد من الأنظمة.
استخدام قانون الطوارئ الذي يمنح النظام صلاحيات استثنائية، بينها تجنيد الجيش لتطبيق خطوات، وخصوصاً تلك التي تتعلق بمنع التنقل والتجمعات العامة، سيثير نقاشاً عاماً، ولو حذراً، بشأن مغزاه في المدى البعيد على وضع الدستور والعملية الديمقراطية. حتى الآن، قوى سياسية شكلت مراكز انتقادات للأنظمة، محافظة - دينية كانت أو ليبرالية، اضطرت إلى الموافقة على خطوات اتُخذت انطلاقاً من الحاجة إلى تأمين سلامة الناس وحاجاتهم الأساسية في مواجهة وباء «كورونا». لكن إغلاق المساجد ومنع الصلوات الجماعية، وخصوصاً في شهر رمضان، استُقبلا بعدم الرضا في مؤسسات دينية في أنحاء المنطقة.
كلما طال وقت التعافي الاقتصادي في دول الشرق الأوسط، من المتوقع أن تزداد الانتقادات الجماهيرية للسلطة المركزية ولخطواتها في المجال الاقتصادي، وضد القيود المتعددة في المجال المدني. بالإضافة إلى أن العودة إلى الحياة الطبيعية يمكن أن ترافقها عودة الظروف الصعبة التي سادت قبل الأزمة، وبينها الانخفاض في أسعار النفط، بالإضافة إلى تفشٍّ متجدد للوباء.
في تراكم تداعيات العقد الماضي على الشرق الأوسط، بالإضافة إلى عدم الوضوح الاقتصادي في المنطقة في السنوات المقبلة، يكمن أيضاً خطر عدم الاستقرار السياسي في الدول المجاورة. على سبيل المثال، الاستقرار النسبي في السنوات الخمس عشرة الأخيرة في العلاقات بين إسرائيل ولبنان يمكن أن يكون موضع اختبار مع إفلاس هذه الدولة نتيجة توقفها عن الدفع والنمو السلبي فيها الذي يُقدر بـ12% في سنة 2020، وتأجيل تحقق الوعود بمداخيل من الغاز الطبيعي وقتاً طويلاً. قدرة الاقتصاد الفلسطيني على الانتقال في سنة 2020 من نمو سلبي إلى إيجابي بمعدل 6.5% مرتبطة إلى حد بعيد بسلوك إسرائيل إزاء السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وإزاء «حماس» في قطاع غزة.
فيما يتعلق بالأردن، تحتاج إسرائيل إلى فحص مجموعة قضايا سياسية واقتصادية مركزية. أي خطوة من جانب إسرائيل لضم أجزاء من الضفة الغربية ستزيد من القطيعة السياسية بين زعامتي الدولتين وتؤذي النسيج الهش للعلاقات بينهما، أيضاً لأنه سيكون من المربح للنظام الأردني توجيه جزء من الانتقادات الداخلية ضده نحو إسرائيل. هبوط أسعار النفط والغاز الطبيعي سيفرض على إسرائيل، وليس فقط على شركات الغاز، فحص الموضوع - مع تداعياته السياسية والمالية. موت مشروع قناة البحرين التي تربط بين البحر الأحمر - البحر الميت، يجب أن يشكل فرصة لنقاش إقليمي بين الأردن والسلطة الفلسطينية وإسرائيل، بشأن صيغة البحر الأبيض المتوسط - بحيرة طبرية، التي تنطوي على حل بعيد الأمد لمشكلات المياه في الدولتين المجاورتين لإسرائيل. علاوة على ذلك، أغرقت أزمة «كورونا» إسرائيل من جديد في النقاش بشأن مكانة الزراعة في الدولة، والحاجة إلى فحص هذه القضية، ليس فقط من الناحية الاقتصادية، بل أيضاً من ناحية الاعتماد على مصادر محلية. أيضاً على هذا الصعيد، من المفروض دراسة فكرة أن زيادة كبيرة في المياه ستجعل من الأردن «خزان حبوب» هذه المنطقة الفرعية من الشرق الأوسط.
أيضاً العلاقات الإسرائيلية-المصرية بحاجة إلى إعادة نظر. أحد حجارة الأساس في هذه العلاقات التعاون في مجال الغاز الطبيعي - سواء في الإطار الثنائي أم في إطار منتدى الغاز الشرق الأوسطي. في هذا المنتدى هناك اليونان وقبرص وإيطاليا، بسبب فكرة مد أنبوب لنقل الغاز من الشرق الأوسط إلى جنوب أوروبا. تحقيق هذه الفكرة التي كان التخطيط لها موضع شك كبير حتى قبل نشوب أزمة «كورونا»، سيؤجَّل حالياً إلى موعد غير محدد. من جهة أُخرى، أهمية المنتدى الاستراتيجية لإسرائيل، والذي أقيم بمبادرة مصرية، تفرض التفكير في طريقة للمحافظة عليه.
حقيقة أنه في إسرائيل ومصر والأردن، وأيضاً في بعض دول المنطقة، يقوم الجيش بدور مركزي في قدرة الحكومات على إيجاد استقرار أولي كشرط لعملية منظمة للخروج من الأزمة، هو موضوع يجب بحثه ودرسه. لإسرائيل مصلحة في تعزيز الحوار العسكري-المدني في هذا الموضوع مع الدول المجاورة، لاستخلاص دروس مشتركة، وربما أيضاً لإيجاد أطر تعاون مستقبلي. تعتمد العلاقات بينها وبين مصر والأردن على البعد العسكري، لكن الآن أُضيف بُعد مدني لمهمات جيوش هذه الدول، كما في إسرائيل أيضاً. من المحتمل أن تتمكن إسرائيل من توسيع تعاونها مع هاتين الدولتين أيضاً في موضوعات مدنية، بالاستناد إلى العلاقات القائمة مع جيشيهما. الحوار الشرق الأوسطي الذي يجريه حلف شمال الأطلسي مع سبع دول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يمكن أن يشكل إطاراً ملائماً لإجراء اتصالات في هذا الموضوع.
التوقعات بشأن مستقبل المنطقة هي في الأساس كئيبة وتهدد بتعريض إسرائيل لمخاطر قديمة - جديدة، لكن يمكن أن تشمل أيضاً فرصاً لفحص مبادرة تساعد في إحداث انعطافة إيجابية في العلاقات بينها وبين جيرانها.

عن «مباط عال»

*باحث في معهد دراسات الأمن القومي