القصة الكاملة للسلام الضائع بين إسرائيل وسورية (3-3)

حجم الخط

بقلم: يغئال كيبنيس



القناة السرية
أوضح باراك للرئيس كلينتون بأن الانسحاب الإسرائيلي لن يكون حتى خط المياه. وأراد باراك أن يستغل تراجع خط الشاطئ بضع مئات من الأمتار غرباً كي يعزز مطلبه في أن يبقي حوله أرضا ذات سيادة إسرائيلية. وقدر باراك بأنه في موضوع الحدود سيكون ممكنا الوصول الى اتفاق يلبي توقعات الطرفين، ولكنه حدد لنفسه قاعدة بأن يبحث هذا الموضوع ويتفق عليه فقط بعد أن يتفق على المواضيع الاخرى – المياه، الترتيبات الأمنية وجوهر علاقات السلام. جاء باتريك سيل، المقرب من الأسد، الى إسرائيل، وتجول في منطقة الحدود بمرافقة اوري ساغي، الذي عينه باراك رئيسا للفريق المفاوض مع سورية. التقاه باراك ونقل من خلاله رسالة الى الرئيس السوري بأنه في لقاء شخصي بينهما سيكون ممكناً الوصول الى اتفاقات من الصعب التصريح بها مسبقاً.
في آب، كانت القناة السرية بدأت تعمل. روس، ساغي، ورياض داودي، المستشار القانوني للرئيس السوري التقوا في بيرن. في الأجواء المريحة والحميمية للقاء أكد ساغي أن إسرائيل تقبل مبدأ الانسحاب الى خطوط الرابع من حزيران مع العلم أن هذه الخطوط ليست واضحة، وهناك حاجة الى الاستيضاح لتحديدها. بعد أسبوعين من ذلك عادوا ليلتقوا في فندق هيات في ميريلند. وانضم الى ساغي المستشار القانوني، يوئيل زنجر، وانضم الى داودي الجنرال ابراهيم عمر. فاجأ ساغي وطلب البحث بالتفاصيل وبمعونة خرائط سورية عن "خطوط الرابع من حزيران"، العقبة الكأداء الأساس للاتفاق. العمل الاعدادي الجذري الذي قام به ساغي و"فريق الحدود" أدى لتكون صورة التواجد السوري شرق بحيرة طبريا واضحة للمهنيين من الطرفين.
في محادثات ميريلند في أيلول، طرح ساغي لاول مرة على مسمع الأميركيين اقتراح التغلب على حقيقة أن الانسحاب الإسرائيلي لن يجلب السوريين الى خط المياه، وسمي الاقتراح لاحقا بـ"الحل الابداعي". وأساسه تعريف أرض من شرق البحيرة مناطق محصورة يسمح فيها بالوصول الحر للمواطنين من الطرفين. هكذا يكون للسوريين حرية وصول الى المياه، لا تكون تحت سيادتهم، ويكون للإسرائيليين حرية وصول الى المنطقة حول البحيرة التي تكون تحت السيادة السورية.
يبدو أن حالة الأسد الصحية دفعته ليسرع الخطوات. "يبدو الاتفاق قريبا جدا"، فاجأ الأسد وزيرة الخارجية اولبرايت، وروس، واينديك الذين جاؤوا الى دمشق في 7 كانون الأول 1999 وأضاف، "باراك جدي، يريد تحقيق اتفاق بسرعة، وهكذا أنا ايضا". كما فوجئوا لأن يسمعوا منه طلبا بعقد لقاء مباشر فوري ولاول مرة بين كبار القيادة السياسية لإسرائيل وسورية. "يخيل لي أننا أنزلنا السقف"، قال الأسد. وأوضح بأنه لن يصر على "خطوط الرابع من حزيران" التي اصر عليها في الماضي.
انتقل الأميركيون الى إسرائيل، وسمعوا من باراك اقتراحه للدعوة في غضون أسبوع الى لقاء تاريخي بين رئيس وزراء إسرائيل ووزير الخارجية السوري، وانضمام الرئيس كلينتون الى المحادثات وعدم توقفها حتى الوصول الى اتفاق. كان باراك واعيا للتوقيت – عشية عيد الميلاد وقبيل انتهاء شهر رمضان – ورأى في الاضطرار الزمني وسيلة ضغط للسعي الى اتفاق سريع ومنع تسريب المحادثات.
رفض الأميركيون الجدول الزمني، وتوجهوا لأن يجرى في 15 كانون الاول لقاء بين باراك، الشرع، وكلينتون في البيت الأبيض، وتواصل المحادثات في مؤتمر لا يبدأ الا في كانون الثاني. وفي ضوء هذا التغيير طلب باراك من الفريق الأميركي خلق شروط عزل تام للمؤتمر. وكان اتفاق في موضوع لبنان سيؤثر على الرأي العام الإسرائيلي الذي سيكون مطالبا باقرار اتفاق سلام مع سورية. حدد باراك لنفسه وأوضح ذلك للأميركيين، بأنه يجب البحث والوصول الى اتفاق في موضوع لبنان قبل الإجمال مع سورية في موضوع الحدود.
ترسيم خط الحدود أراد باراك، تماما مثل نتنياهو قبله، أن يبقيه الى نهاية المحادثات. كان باراك مستعدا ليوافق على أي خط يبقي البحيرة تحت السيادة الإسرائيلية، ويعطى للسوريين حقوق استخدام في مياهها. اما توقعات السوريين بالعودة الى شاطئ البحيرة ففكر بحلها من خلال حفر بركة مائية داخل الاراضي السورية في شمال شرقي البحيرة، المنطقة التي توجد فيها القرية السورية مسعودية، التي كانت قريبة من خط المياه. النقاش في النقاط التي كان مطلوبا فيها تنازل إسرائيلي حاول باراك أن يبقيها الى اللقاء بينه وبين الأسد.
في 2 كانون الثاني 2000، هبطت طائرة باراك في واشنطن، في طريقها الى شبردزتاون. وبينما كان في الجو بُلّغ بأن البلدة مليئة بالصحافيين وشروط اللقاء المعزول والمحمي من التسريبات ليست قائمة. "لا أستطيع عمل ذلك"، قال باراك لاينديك، الذي كان دعاه الى الصعود الى حجرة المسافرين مع توقف الطائرة. وكان باراك يقصد أنه في هذه الظروف لا يمكنه أن يدير المحادثات كما يلزم. وفهم اينديك ذلك بشكل مختلف. رفض باراك إجراء المحادثات في ظروف يمكن فيها لرجال الاعلام ان يجمعوا المعلومات عن المحادثات فسره اينديك كقرار من باراك لوقف العملية. وهكذا خلق اينديك الاساس للرواية بأن باراك تراجع عن نيته الوصول الى اتفاق كونه خاف من نتائجه.
علق باراك في واقع ما كان يمكنه فيه أن يتراجع عن عقد المؤتمر، واضطر لأن يعقده تحت تغطية اعلامية وثيقة وبخلاف الظروف التي رآها ضرورية. بل ان باراك عمل على تأجيل تقدم المحادثات في المؤتمر، حتى عندما تبين أن السوريين بالذات أبدوا مرونة، بما في ذلك قبول طلب إسرائيل عدم التماثل في التجريد من السلاح على جانبي الحدود بحيث يكون التجريد في الجانب السوري اكبر بكثير منه في الجانب الإسرائيلي. سلوكه وبيانه بأنه سيضطر للعودة الى إسرائيل عززا الانطباع بأن المصاعب التي وضعها منعت الوصول الى اتفاق. اضافة الى ذلك نشرت في صحيفة "الحياة" (اللندنية) في لندن معلومات سربها رجال باراك بأن سورية تعترف بأن خط الرابع من حزيران ليس الحدود، ولم ترسم ابدا، وبالتالي فإنها مستعدة للمشاركة في المداولات على تصميم هذا الخط. شعر السوريون بأنهم ضُللوا فردوا بحدة. لم تجر جولة اخرى. مسودة الاتفاق الأميركية اطلع عليها عكيفا الدار، المحلل السياسي لصحيفة "هآرتس"، هذه المرة ليس من قبل رجال باراك. الوثيقة، التي تضمنت تنازلات السوريين، ولكن ليس خط الحدود الذي ستنسحب اليه إسرائيل، نشرت في 13 كانون الثاني، وأدت الى فقدان ثقة السوريين بالخطوة وبالأميركيين كوسطاء فيها. وقرر الأسد عدم استئناف المحادثات.
باراك، الذي تعهد بإخراج الجيش الإسرائيلي من لبنان حتى تموز، فضل عمل ذلك باتفاق إسرائيلي – سوري يعطل القوة العسكرية لـ"حزب الله"، وليس كانسحاب من طرف واحد. وعليه، فقد قرر أن يعرض على السوريين "خط الرابع من حزيران"، الخطوة التي تسمح بإكمال البنود الاخرى للاتفاق. قدر باراك بأن الجمهور سيقر في استفتاء شعبي اتفاق السلام بين إسرائيل وسورية، والذي يتضمن أيضا اتفاقا يتعلق بلبنان. تمت الاستعدادات للخطوة الأخيرة بسرية كاملة.
غير أنه كما أسلفنا، اللقاء في جنيف، الذي استهدف تحقيق ذلك، انتهى بالفشل. بُشر باراك في مكالمة هاتفية من جنيف بفشل اللقاء. أما انسحاب إسرائيل من لبنان فأمر باراك بتنفيذه في نهاية أيار، وكان احادي الجانب وبلا اتفاق. وفي حزيران توفي حافظ الأسد.
في تشرين الأول، نشبت الانتفاضة الثانية. انشغل شارون، الذي حل محل باراك، بالقضاء عليها، وبالانسحاب من قطاع غزة ومن شمال "السامرة". رفض توجهات بشار الأسد لاستئناف المفاوضات. توجهات جاء بها له ادوارد جرجيان، السفير الأميركي السابق في إسرائيل وفي سورية. ولكن المصلحة الإسرائيلية والسورية للوصول الى اتفاق سلام أدت الى فترتين أخريين من المفاوضات في الجهد لتحقيقه.
حرب لبنان الثانية واطلاق الصواريخ من لبنان على إسرائيل في اثنائها جسدت لإسرائيل اهمية انقطاع الصلة بين "حزب الله" وسورية. في جهد للوصول الى اتفاق سلام مع السوريين، ادار اولمرت، ابتداء من ايار 2008، من خلال مندوبيه، يورام تربوبيتش وشالوم ترجمان، محادثات غير مباشرة مع السوريين في أنقرة، تحت رعاية الاتراك. في المرحلة المتقدمة التي وصلوا اليها بحثت الاطراف بالتفاصيل بما في ذلك ترسيم الحدود. وجاءت استقالة اولمرت في ايلول وخروج إسرائيل في نهاية كانون الاول الى حملة "الرصاص المصبوب" الى انتهائها.
ان قطع سورية عن ايران و"حزب الله" بقي هدفا استراتيجيا لإسرائيل. نتنياهو ايضا، في ولايته الثانية، حاول تحقيقه. ثمن ذلك بات معروفا – انسحاب إسرائيلي كامل الى خطوط الرابع من حزيران وعمليا حتى بحيرة طبريا – ولم يكن هو موضع البحث. فقد تركزت الاتصالات على المقابل التي ستحصل عليه إسرائيل وفي التنصيص عليه. باراك، هذه المرة كوزير للدفاع، كان شريك السر الوحيد بين الوزراء على وجود المحادثات، التي ادارها نتنياهو بمساعدة اسحق مولكو، عوزي اراد، ويعقوب عميدرور، الذي حل محال اراد، والعميد مايك هرتسوغ. ولكن الحرب الاهلية التي اندلعت في سورية أوقفت الخطوة.

بعد 20 سنة
يبدو اتفاق سلام بين إسرائيل وسورية، اليوم، منقطعا عن الواقع. الجولان إقليم رائع، ويمكن مواصلة الإبقاء عليه تحت السيطرة الإسرائيلية على مدى سنين. ولكن بلا اتفاق سلام.
فهل أخطأ زعماء إسرائيل، من اليمين ومن اليسار، حين كانوا مستعدين ليعيدوا الجولان الى السيادة السورية في إطار اتفاق سلام مع سورية، اتفاق رأوا فيه ما يعزز أمن إسرائيل؟ ان الهدف السياسي – الأمني لإسرائيل كان ولا يزال: الحد الأقصى من الأمن والحد الأقصى من الاستقرار. يمكن لهذين الهدفين أن يتحققا بوسيلتين: التفوق العسكري والاتفاق السياسي. لن تخاطر إسرائيل باتفاق سياسي بلا تفوق عسكري، ولكن التفوق العسكري وحده لا يضمن الأمن والاستقرار. اتفاق سلام بين إسرائيل وسورية، والذي سعى اليه رؤساء ست حكومات في إسرائيل، كان يستهدف اخراج سورية من دائرتي "الإرهاب" والمواجهة، وقطع المحور الشيعي ايران – "حزب الله"، ابعاد ايران عن النفوذ على الحدود الشمالية لإسرائيل وادراج سورية في المحور الذي يعمل تحت نفوذ الولايات المتحدة.
ليس لأحد القدرة على ان يجيب عن سؤال "ماذا كان سيحصل لو أن؟". حيال من يعزون أنفسهم بالقول: "من حظنا انه لم يوقع اتفاق سلام مع سورية"، يمكن ان نطرح أسئلة مثل كيف كانت ستتطور الأمور لو كان وقع ونفذ اتفاق بينما في سورية يوجد حكم مستقر تحت نفوذ الولايات المتحدة والغرب؟ ما هي المنفعة الأمنية من انضمام سورية الى مصر، السعودية والأردن، لاستكمال الحزام الأمني من الدول العاملة بتنسيق مع إسرائيل؟ هل في واقع كانت فيه سورية توقف الدعم عن "حزب الله" وتقطعه عن الاتصال البري بايران كانت ستنشب حرب لبنان الثانية؟ هل في الأجواء السياسية بعد اتفاق السلام كانت الحرب الاهلية في سورية ستنشأ وتصل الى الابعاد التي وصلت اليها؟
في إسرائيل قلقون، اليوم، من الخطر الأمني نتيجة تموضع قوات إيرانية في سورية وتوسيع تهديد "حزب الله" الى الجبهة السورية، وللتأثير الحاسم للروس والإيرانيين على الحكم في سورية ولفك الارتباط الأميركي عن الساحة. حاول رؤساء الوزراء، الذين سعوا الى اتفاق سلام بين إسرائيل وسورية، منع هذه المخاطر. لقد عملوا وفقاً لنهج بموجبه "مهم ما يريده الشعب، ولكن أكثر أهمية اقتياده الى ما يحتاجه".

عن "معاريف"