مستقبل الخدمات الإلكترونية بعد «كورونا»

حجم الخط

بقلم هاني عوكل

 

قبل أن يظهر ويتفشى فيروس كورونا حول العالم ويحول المدن التاريخية والرئيسة إلى مدن أشباح خالية من المارة والزوار، كانت الخدمات الإلكترونية تنمو بقوة يوماً بعد يوماً، وفي المقابل يزيد الوعي المجتمعي ووعي المستهلك إزاء التفاعل مع هذه الخدمات عن بعد.
دخول «كورونا» على الخط وفرضه بقوة سياسة التباعد الاجتماعي وكذلك «خليك في البيت»، استعجل إلى حد كبير تفاعل الأفراد مع الخدمات الإلكترونية، وتفضيل الكثير منهم الحصول على مختلف الخدمات والشراء والدفع الإلكتروني للحد من الخروج المنزلي والوقاية من مخاطر الإصابة بالفيروس.
ثقافة التسوق الإلكتروني ارتبطت بالتحولات التي تشهدها المجتمعات، وهي تحولات اجتماعية واقتصادية وكذلك استهلاكية وظفتها التكنولوجيا المتطورة وسهولة الوصول إلى بيانات الأفراد في التعرف إلى احتياجاتهم، ما دفعهم إلى التركيز على بعض المواقع الإلكترونية والتسويقية التي توجههم في اختيار السلع.
في المقابل زادت عمليات النصب والاحتيال الإلكتروني، ونبهت الحكومات إلى خطورة التبرع في الكشف عن معلومات شخصية لجهات غير موثوقة من المحتمل أن تستخدمها لأغراض احتيالية، لكن على الرغم من كل ذلك زادت معدلات الشراء الإلكتروني بنسب كبيرة خلال فترة «كورونا».
العالم ما قبل «كورونا» شهد طفرة في حركة البيع والشراء عبر الإنترنت، وكذلك الحصول على عديد الخدمات الإلكترونية دون الحاجة إلى الاصطفاف في طوابير سواء في الدوائر الحكومية أو حتى القطاعات الخاصة ومراكز التسوق ومحلات التجزئة.
تزامن مع هذه الحركة الواسعة في التعامل مع الخدمات الإلكترونية، استجابة الحكومات لضرورات توظيف التكنولوجيا في تسهيل حصول الفرد على الخدمات التي يريدها بكبسة زر، وهذا الأمر قد يعني لاحقاً التخلي عن ملايين الوظائف وإحالة الموظفين إلى البطالة.
بطبيعة الحال ثمة توافق بين القطاعين الحكومي العام والخاص من حيث تقليص حجم الإنفاق العام، يشمل ذلك بالتأكيد توفير خدمات إلكترونية بتوظيف أقل عدد ممكن من العمالة، والأهم تحقيق مكاسب مادية مجزية، وهنا تأتي التكنولوجيا وتطوراتها المتسارعة لتفعل العجب العجاب.
دون كلفة التنقل إلى المكان الفلاني أو الدائرة الفلانية، وكذلك تحمل عناء الوقت والمرور بأكثر من موظف أو عامل لإنهاء الخدمة، يمكن للفرد تجاوز كل هذه الطرق عبر شاشة مسطحة موصولة بالإنترنت، والأهم أن يكون هناك في البطاقة الائتمانية مبلغ يمكن الإنفاق من خلاله.
نتيجة «كورونا» تغيرت العادات الاستهلاكية إلى حد أن كبار السن الذين لم يكونوا على دراية بمعجزة التسوق الإلكتروني أو أنهم يفضلون التسوق التقليدي، نتيجة انتشار الوباء يلحظ أن الكثير منهم يتبضعون إلكترونياً ويشترون حتى الخضراوات وكل ما يرغبون بشرائه.
ليس هذا فحسب، بل حتى الاجتماعات التقليدية التي تتطلب الحضور الشخصي شبه اختفت وحلت محلها الاجتماعات عن بعد، وتوسعت هذه الآلية إلى الاجتماعات على مستوى الدول وعلى مستوى الدولة الواحدة، ومن غير المستبعد أن يوجه «كورونا» الأفراد إلى التعامل مع هذا النوع من الخدمات وإحلاله بالتدريج بدلاً من الخدمات التقليدية.
السلوك الفردي وحتى الدولي تغير في عصر «كورونا»، وقمة العشرين التي كان يلتئم فيها رؤساء الدول للتباحث في قضايا دولية وإقليمية، اجتمعوا قبل أكثر من شهر عن بعد وبحثوا في «كورونا» وغيرها عبر الشاشات.
شكراً للتكنولوجيا ولكن ينبغي قياس حجم المخاطر التي يمكن أن تحملها ضد الأفراد. 
الحقيقة أن الطلب على الخدمات الإلكترونية يزيد يوماً بعد يوم وسيزيد أكثر خلال الفترة المقبلة، وما فعله الفيروس هو أنه وضع الأفراد في قطار سريع للتفاعل مع مختلف الخدمات المقدمة، ما يضغط على القطاعين العام والخاص للاستجابة إلى الطلب المتنامي على هذه الخدمات.
في المقابل ثمة خدمات وشركات تقليدية ستختفي من السوق إن عاجلاً أم آجلاً، لعدة أسباب من بينها مخاطر «كوفيد 19» على الاقتصاد العالمي وتأثيره المباشر على حركة تدفق العمالة التي تعتبر أساس تحرك عجلة الاقتصاد، إلى جانب أن بعض الشركات غير قادرة على تقديم الخدمات الإلكترونية بالشكل المطلوب وبالتالي ستعجز عن كسب المستهلك.
بعد «كورونا» أغلب الظن أن وظائف تقليدية ستتقاعد وتخرج من الخدمة، وستعيد شركات وقطاعات كثيرة ترتيب أجنداتها الخدمية بما يحقق لها مقعداً في السوق، ومتجر إلكتروني ضخم وكبير مثل «أمازون» على سبيل المثال سيواصل التوسع والانتشار عالمياً وقد يبقى لفترة جيدة المنصة الإلكترونية الأكثر بيعاً على مستوى العالم.
لا بد من التركيز جيداً على مسألة الوعي بالحصول على المنتج، إذ تتجه بعض الدول الغربية إلى التخلي عن موظفيها في مراكز التسوق، مقابل فتح قنوات الخدمات من قبيل الشراء عبر المتجر الإلكتروني أو التبضع في مركز التسوق والدفع الإلكتروني دون المرور بأي موظف.
نعم الخدمات الإلكترونية مفيدة، لكنها مع الأسف تجلب ضرراً لأولئك الذين فقدوا وظائفهم بسببها، والأولى أن يوازن الفرد بين شراء الخدمات إلكترونياً وبين التبضع التقليدي، وأذكر هنا قريباً كان يحمل سلعاً ويهم بالدفع في أحد متاجر التسوق، وبدلاً من استخدام الدفع الإلكتروني السريع، فضّل التوقف في طابور للدفع عبر الموظف. حين سألته عن السبب قال إنه وكذلك أنا وغيري من المستهلكين إذا لجؤوا إلى خيار الدفع الإلكتروني السريع فهذا يعني الاستغناء عن بعض الموظفين.
الخدمات الإلكترونية ستتطور وتتوسع لكنها مرهونة صراحةً بالحس المجتمعي والمسؤولية الأخلاقية للفرد، ذلك أن حماية الوظائف ستعني بالضرورة استقرار المجتمع وحماية أمنه الداخلي.