تيك توك TIKTOK

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد الغني سلامة

منصة جديدة على شبكات التواصل الاجتماعي، أخذت تجتاح عالمنا الافتراضي بسرعات رهيبة، وهي الآن تتربع على مقدمة البرامج الترفيهية، عدد المشتركين فيها آخذ بالازدياد، وقد تجاوز 800 مليون مشترك، أما معدلات التحميل والتنزيل لهذا البرنامج فقد تجاوزت 1.3 مليار مرة، وتفوقت على سائر المنصات الأخرى، بما فيها عملاق التواصل الاجتماعي «فيسبوك».
في هذا التطبيق، يمكن لأي شخص أن ينشر مقطعا مصورا قصيرا بحدود 15 ثانية، غالبية هذه المقاطع ذات صبغة فكاهية: تقليد لأغانٍ شعبية («بنت الجيران» رقم واحد)، أو مقاطع منتقاة من مسرحيات كوميدية، أو من أفلام قديمة، أو تحدّ بين أشخاص للقيام بفعل معين، أو رقصات جماعية وفردية، أحيانا تشترك العائلة بأكملها في المقطع، أو قد يقوم حفيد بتوريط جدته في حوار لجرها إلى قول أشياء مضحكة، أو تقوم أم معجبة بطفلها بتصويره وهو يؤدي حركات شقاوة، أو أن ينفذ زوج مقلبا بزوجته، أو أن يستعرض شخص ما مواهبه، بالإضافة للنكات والمواقف الطريفة، والكثير من الهبل والجنون.
غالبية المشتركين من الأطفال والشبان والصبايا، ولكن من الطبيعي أن تجد كهولا ومسنين وهم يقدمون فقرات غريبة، حتى أن مشاهير عالميين قدموا ما لديهم، والأغرب أنك ستجد مشايخ ورجال دين يقدمون نكاتا، ويستعرضون مواقف طريفة، أو تعليقات لاذعة.
أغرب ما في هذا البرنامج تفاهته، وربما هذا سر نجاحه، وأهم سبب لانتشاره الواسع وغير المسبوق.. والأغرب أنك ستمضي ساعات في مشاهدته، وأنت حائر في مشاعرك بين الاشمئزاز والإعجاب، بين الشعور بالتفاهة، وانتظار شيء مجهول تبحث عنه.. شعور غريب يمزج بين الانزعاج والتمتع بهذا الانزعاج. تشاهد مائة مقطع سخيف على أمل أن تحظى بمقطع واحد مضحك، يخرجك من حالة الرتابة والملل، ويحسن مزاجك.
بمتابعة عداد المشاهدات وتسجيل الإعجاب (اللايك)، ستستغرب أن المشاهير يحظون بعدد أقل بكثير مقارنة بالمقاطع التي يسجلها أناس عاديون، وكلما كان المقطع أكثر غرابة وتفاهة حظي باستحسان أكثر!
فليس المطلوب هنا تسجيل مواقف جدية، أو مفيدة.. هذا العالم مخصص لشيء مختلف وجديد، مخصص فقط للتسلية والترفيه، بأبسط الحركات، وأكثرها مباشرة وسطحية، وحتى أحيانا بالبذاءة والابتذال.. وهذا الأمر يوجب دراسة علمية جادة.. وأعتقد أن أي دعوة لمقاطعة هذا البرنامج، أو لتحسين محتواه ستكون مجرد هراء، ولن تلقَى أي تجاوب.. حيث إن شعبيته في تنامٍ مستمر.
بدأ هذا البرنامج قبل نحو سنتين، بعد أن قامت شركة صينية بشراء برنامج «ميوزيكلي»، القائم على فكرة تحريك الشفاه أثناء الاستماع للأغنية المفضلة (كاريوكي)، ما يمنح المستخدم شعور المغني الحقيقي، أو يزيد من مقدار تفاعله مع الأغنية، واستمتاعه بسماعها.. ومع تحويل اسم البرنامج إلى «تيك توك»، وزيادة عدد المشتركين، صار يدار بوساطة الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات الضخمة، الذي يرشح المقاطع الأقرب لقلب المتلقي ومزاجه وتوجهاته، ما يجعل المتابعة أكثر متعة، قد تصل إلى درجة الإدمان.
في الهند تصل نسبة المشتركين في «تيك توك» إلى ثلث حاملي الهواتف الذكية، وفي أميركا، بدأت أعداد المشتركين تتزايد بصورة ملحوظة، حتى أن السلطات الأمنية عبرت عن قلقها وتخوفها من البرنامج، خاصة أن الشركة المالكة له صينية، ما يفتح جبهة جديدة في الحرب التجارية بين البلدين العملاقين.
والزيادة الكبيرة في أعداد المتابعين والمشتركين حصلت في فترة الحجر الصحي، التي فرضتها جائحة الكورونا، حيث في ظروف العزل والبقاء في المنازل طوال الوقت صار الناس يبحثون عما يخرجهم من حالة الملل، خاصة البرامج السهلة والمباشرة، سواء للمتلقي الذي يمضي الساعات وهو يقلب الشاشة، أو للمشترك الذي يقدم ما لديه، دون أي حاجة لمواهب خارقة، أو لقدرات غير عادية، أو لعلم متخصص.. بل على العكس المطلوب أن تكون عاديا جدا، أو أقل من العادي، لتصبح مشهورا.
لهذا البرنامج إيجابيات وسلبيات كثيرة، مثل أي برنامج آخر، لكن خطورته تكمن في إمكانية المشاهدة لكافة الأعمار، وأحيانا قد تجد فيه ظواهر غير صحية وسلبية، مثل التنمر، والتنميط، والتصنيف، وتشجيع التمييز العنصري، واستغلال الأطفال، أو كبار السن، أو الإساءة لذوي الإعاقة، أو التشجيع على العنف، ومع أن مثل هذه المظاهر موجودة في بقية منصات التواصل الاجتماعي، إلا أن خطورتها في «تيك توك» بسبب نسبة الأطفال والمراهقين العالية من بين مشتركيه ومتابعيه.
لا تستغربوا من سرعة انتشار «تيك توك»، فسرعة التطوير والتغيرات في عوالم الاتصالات مذهلة، وتفوق التصور، وفي كل مرة يأتي اختراع جديد ويحل محل القديم، وهكذا.. قديما، كان امتلاك جهاز تلفزيون يعد حدثا تاريخيا، فتجد في القرية، أو في الحارة الواحدة منزلا أو منزلين فقط ممن يمتلكون تلفزيونا، فتأتي العائلات وتتقاطر لزيارتهم ومشاهدة هذا الاختراع العجيب.. اليوم، صار مع كل طفل هاتف ذكي، أو أيباد يفوق التلفزيون بتنوعه ووضوح صورته.. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد صار بوسع أي شخص (حتى لو كان طفلاً) أن يمتلك قناة تلفزيونية خاصة، عبر منصة «اليوتيوب»، أو «اللايف»، أو «تيك توك»، ومن خلالها يستطيع تصوير نفسه، وتسجيل برامج ومسلسلات خاصة به، تصل إلى أبعد نقطة على كوكب الأرض.
وكما يجني البعض أرباحا طائلة من خلال قنواتهم على اليوتيوب، يمكن أيضا لأصحاب القنوات على «تيك توك» جني المال، وذلك مع زيادة أعداد المعجبين، ما دفع بالبعض لفعل أشياء غريبة ومستهجنة، حيث يُضاف للسعي للربح حمّى تحقيق الشهرة.
مع أن سياسة «تيك توك» تنص على عدم نشر ما يخل بالآداب، أو يحث على التمييز العنصري، أو العنف، أو الإساءة للآخرين، أو المقاطع الصادمة، أو المحتوى الجنسي، أو مشاركة الأطفال.. إلا أن كثيرا من تلك المقاطع يمكن مشاهدتها من حين لآخر.
انتبهوا لأولادكم؛ فعوالم الإنترنت أوسع مما تظنون، وفيها جوانب مظلمة ومخيفة، وما يخبئه المستقبل رهيب ومدهش.