حكم قراقوش

حجم الخط

د صبري صيدم يكتب

تقول الكتب في بهاء الدين قراقوش، بأنه كان حاكماً غريب التصرفات والقرارات، وهو الذي اعتبره الناصر صلاح الدين الأيوبي نائباً له وركناً من أركان الدولة وثباتها حتى ولاّه على مصر، فبنى السور الشهير من حولها والقناطر الشهيرة، وقلعة الجبل، وقائمة لا تنتهي من المنشآت التي لا يعرف الناس في معظمهم علاقته بها. وعندما تمكن صلاح الدين من السيطرة على مدينة عكا الفلسطينية، نقل مسؤوليتها إليه، فحكمها قراقوش وأدار شؤونها حتى وقع أسيراً فيها عند احتلالها من جديد من قبل الفرنج. وكما هي الحال في عالم التاريخ، فإن من يمتلك القلم في عالم السياسة يعطي لنفسه حق تصنيف البشر، والغايات والأهداف، إما بالواقعية العلمية التي تتجاوز الأحكام الشخصية، أو بالتشويه المقصود للحقائق بغرض حرف مسارات الرواية الدقيقة. وعليه فإن قراقوش، كما غيره من الساسة، لم يكن ملاكاً أو نبياً، فاتهمه بعض المؤرخين بالجنون والسذاجة والسطحية، وصولاً إلى اعتباره معتوهاً أهوج، لا يمتلك رجاحة العقل المطلوبة. أياً كانت الحقيقة فإن ثوابت واقعية ارتبطت بالرجل، فقد كان قريباً لشخص صلاح الدين، مخلصاً  له ولإبنيه، وقد تولى مسؤوليات مهمة عديدة ذكرناها آنفاً، وهو حتماً ما أثار حفيظة البعض وغيرتهم، ممن اتهموه أيضاً بالبطش والاستبداد والتفرد، والتنكر للجميع ممن خالفوه الرأي، إضافة إلى عناده الشديد في تنفيذ رؤيته ورغباته، حتى بات شائعاً في عالمنا العربي توصيف القرار الذي يتعارض ورغبة الناس، ولا يمكن تحت أي ظرف التراجع عنه (بحكم قراقوش)|. وسبب الحديث اليوم عن قراقوش هو إصرار نتنياهو وعصابته، مدعوماً بصهاينة ترامب الجدد، على ضم أجزاء واسعة من فلسطين إلى دولة الاحتلال، حتى إن قال العالم عكس ذلك، بل إن بيانات الدول والاتحادات العالمية ومواقف المؤسسات الأممية، وعلى رأسها الأمين العام للأمم المتحدة، وموقف الاتحاد الأوروبي، وعلى رأسها مفوضها العام، والدول على اختلافها، بما فيها بعض الدول العربية، التي ارتبطت باتفاقيات سلام مع دولة الاحتلال، وامتلك قادتها هرمون الشجاعة لرفض الضم، جميعها لم تفلح في ثني غرور نتنياهو، ولا كبح جماح شريكه في حكومة الضم الجديدة بيني غانتس، باتجاه تنفيذ ما سموه، صفقة القرن. يعني أننا أمام حكم جديد يوازي في تشدده أحكام قراقوش، أياً كانت توصيفاته، مع قناعتي بأن قراقوش الإنسان، لا يقارن بنتنياهو، لكننا نستعير المصطلح المذكور للدلالة على العناد في القرار.

“الشعوب لا تحكم بالعصا ولا بالإكراه مهما طال الزمن، وأن حقوقها لا ولن تسقط بالتقادم”.

العالم في واد وحكومة الاحتلال في وادٍ آخر وإن غلفت خطاباتها بتكتيكات كلامية واضحة كالضم التدريجي للأرض، وتجنب الإشارة للأغوار لعدم إغضاب الأردن الذي أكد نيته، وقف العمل ببعض بنود اتفاقيته للسلام مع إسرائيل، في حال أقدمت الأخيرة على الضم. وبهذا فإن نتنياهو سيمارس اللعب على المصطلحات والكلمات، لكنه حتما سيبدأ بالضم من الغرب إلى الشرق، أي أنه سيذهب إلى ضم المستوطنات أولاً،  ثم ينتقل وبعد أن يهدأ الانتقاد الدولي، نحو تنفيذ ضم الأغوار، وفق الخطة التي أعدها هو وكوشنير وغرينبلات وفريدمان لترامب، ليعلنها وكأنها خطته، بدون أن يتذكروا بأن الشعوب لا تحكم بالعصا ولا بالإكراه مهما طال الزمن، وأن حقوقها لا ولن تسقط بالتقادم. وأن أحذية شهدائها ومناضليها ستبقى أطهر من رقاب الغاصبين. على العموم وأمام حكم قراقوش هذا وأياً كانت السيناريوهات، فإن سخريات القدر تشير هناك في عكا الجريحة، إلى أن قراقوش ذاته، جاء من يدون سيرته ذات يوم وهو المؤرخ العربي الأسعد بن مماتي، فكتب فصلاً كاملاً عنوانه «الفاشوش في حكم قراقوش»، فهل نشهد ولادة «فاشوش» نتنياهو طال الزمان أم قصر؟