من كمامات الوقاية إلى كمامات الأفواه

حجم الخط

صبري صيدم يكتب

 

شاءت الأقدار أن يُبتلى العالم العربي بنسخة مخففة من فيروس كورونا، إما بقرار إلهي، أو لأسباب غامضة ستكشفها الأيام. ومع هذا البلاء ونظراً لكثرة انكفاءات الأمة العربية وانكساراتها وإحباطاتها، وإيمانها الحديدي بنظرية المؤامرة، فقد انطلقت الأقلام والقرائح للحديث عن مؤامرة كورونا وأبعادها السياسية، ومن يقف وراءها، ومن خطط لها وآثارها وحروبها. فالبعض قال أمريكا، والبعض الكثير قال إسرائيل، والبعض الأقل أشار لدول هنا ودول هناك، ممن اتهموا بصناعة الفيروس في مختبرات أسلحتهم البيولوجية الجرثومية.

مؤامرة، مؤامرة، مؤامرة… هكذا أصر البعض، وقد يكون إصراره صحيحاً، لكن هذا الإصرار والنهج إنما يحتاج لتأكيد علمي، مبني على الحقائق والدلائل والوثائق القاطعة الجازمة. أما واقع الحال الصارخ اليوم فيؤكد، سقوط ما يزيد على أربعمئة ألف ضحية بفعل كورونا، في حين يستمر الوباء في زحفه باتجاه المليون السادس من حيث الإصابة حول العالم. وعليه فإن حقيقة الموت والإصابة ليست موضع نقاش، وهو ما دفع أبناء أمتنا العربية الباسلة، في بداية انتشار الوباء للاقتناع بخطورة المرض، وجدوى إعلان حالات الطوارئ من قبل عواصم العروبة وحكوماتها، فتسلحت الغالبية بكمامات التنفس والقفازات، والمعقمات، ووافقت مكرهة على التزام بيوتها، خوفاً من الفيروس اللعين الذي يحتاج لمجاهر قادرة على التكبير بواقع 9 ملايين ضعف حتى تراه عين البشر.

ومع احتدام انتشار مئات المقالات والأفلام القصيرة والمداخلات المزعومة «لخبراء عرب»، على صفحات الإعلام الاجتماعي والتقليدي حول المؤامرة الكونية، التي تقف وراء كورونا، وقلة الإصابات المسجلة في العالم العربي نسبياً، تحولت كمامات الأمس وقفازاته، إلى مادة دسمة للتندر والتهكم على أولئك الذين صدقوا وجود الجائحة ومخاطرها، وما يحيط بها من إجراءات احترازية.

“في دول الاقتصاديات المنهكة، فإن البعض يؤمن بأن المال غلب المنال، وإن هم الفلوس أكبر من الفيروس “.

ابتسامات مخفية هنا، ورسائل آدمية مشفرة هناك، قتلت إجراءات الوقاية حتى بات الحديث عن التباعد مدعاة للمسخرة والمزاح، فغصت الشوارع قبيل العيد بالناس، وتقاطر الآلاف على المؤسسات الحكومية والجنازات وبيوت العزاء، دونما وازع وقائي، أو خوف صحي، حتى تعاظمت المطالبات بإنهاء حالات الطوارئ التي اجتاحت العالم العربي. ورغم صمود الحكومات ولمدة زمنية معينة أمام مزاودات القطاع الخاص، وأنينهم المشروع، وإصرار الناس على عودة دور العبادة لاستقبال المصلين، والحاجة لاستعادة الحياة الطبيعية، إلا أن تلك الحكومات عادت وأذعنت أمام خوفها من انفلات الشارع، وتغلبه على إرادات الحكومات، فوافقت مرغمة على استعادة الحياة الطبيعية جزئياً أو كلياُ، مستسلمة لرغبات الكثيرين، رغم بقاء المرض ومخاطره، بحيث باتت تلقي المسؤولية على كاهل المواطن المتندر، والمقتنع بأن كورونا ما هو إلا مسرحية كونية، وهو ما سيعني بالضرورة أنه لن يأخذ بأسباب الوقاية والحماية، وسيتحمل هو مسؤولياته تجاه ذاته وتجاه المجتمع، لذلك وفي دول الاقتصاديات المنهكة، فإن البعض يؤمن بأن المال غلب المنال، وإن هم الفلوس أكبر من الفيروس، وإن حماية الناس لذاتهم وحمايتهم لغيرهم ستقوم على التعايش مع المرض، لا الاستمرار في الطوارئ والحجر العام.

لكل حتماً مسبباته وقناعاته، رغم وجود تحذير أممي صادر عن منظمة الصحة العالمية، حول وجود نسخة ثانية من الوباء ستبرز مع نهاية الصيف الحالي. ومع انتهاء حالة الطوارئ عاد البعض للسؤال عن كل ما واكب عالم كورونا من قرارات وخطط ومتابعات، وتدخلات ونجاحات وإخفاقات. ولأننا لا نعيش في زمن الرسل، ولسنا حتماً ملائكة، فإن إطلاق الأحكام السلبية من قبل البعض أمر وارد، بل حتمي، وكأننا نعيش ولادة جردة حساب مجتمعية. أمام هذا النفس فإن الواقع العربي مرشح لنقل أدمغتنا، وما تحمله من ذاكرة متوثبة، من عهد كمامة التنفس إلى كمامة الأفواه! فهل تتعقل حكومات العالم العربي في التعامل مع الإعلام الناقد، أم أنها ستتهم الناقد بالحاقد ونشهد تكميماً حقيقياً للعقول؟