الانتشار العسكري لـ»حزب الله» على الخط الأزرق يزيد فرص التصعيد

حجم الخط

بقلم: أساف أوروين*


في نهاية حرب لبنان الثانية [حرب تموز2006 ] رأى مجلس الأمن في وجود "حزب الله" ونشاطه في الجنوب اللبناني أحد أسباب نشوبها. وبناء على ذلك، توجه القرار 1701، الصادر عن مجلس الأمن، إلى تجريد الجنوب اللبناني من القدرات العسكرية غير الحكومية، من خلال انتشار الجيش اللبناني بمساعدة اليونيفيل. لكن فعلياً، انتقل "حزب الله" هناك من مظهر عسكري علني (سلاح وملابس عسكرية) كما كان قبل الحرب، إلى تستُّر مدني، وأقام بنى تحتية عسكرية، وأدار عمليات ترميم وعزز قوته، واستأنف نشاطه العملاني وزاده بالتدريج.
على طول الخط الأزرق، وأحياناً من خلال اجتيازه، يقوم الحزب بدوريات بأوقات متقاربة بواسطة مجموعات ترتدي لباساً مدنياً مجهزة بمعدات تصوير متخصصة. وتحت غطاء منظمة مدنية للتحريج "أخضر من دون حدود"، أقام "حزب الله" على الأقل 16 موقع مراقبة قريبة من الحدود، ومواقع كثيرة أُخرى تُشغّل من منازل خاصة. ومن منازل ومبان تُعتبر "أملاكاً خاصة"، انطلق أيضاً مشروع الأنفاق الهجومية التي كان غرضها السماح بعملية تسلل مفاجئة وسرية إلى أراضي إسرائيل من تحت عائق الجيش الإسرائيلي، ووضع قوات تابعة له في الجبهة الخلفية. هذا المشروع كشفه الجيش الإسرائيلي، وفي نهاية سنة 2018، جرى تدمير ستة أنفاق اجتازت أراضي إسرائيل في عملية "درع شمالي". القوات التي كانت معدّة لعبور الأنفاق ضمن إطار خطة هجوم على الجليل، هي قوات الرضوان - قوات راجلة نوعية منتشرة بالقرب من الخط الأزرق، ومتغلغلة في القرى والبيئة المدنية، تسمح لـ"حزب الله" بالقيام بعملية سريعة داخل أراضي إسرائيل بأساليب متنوعة. نشطاء "حزب الله" يمنعون بصورة منهجية قوات اليونيفيل من التنقل بحرية في المنطقة، وأغلبية حوادث التعديات على دوريات الأمم المتحدة تسجَّل في منطقة الحدود.
بشأن إمكانات التصعيد لانتشار "حزب الله" بالقرب من الخط الأزرق، يمكن أن نتعلم ذلك من التاريخ الحاصل منذ انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان، والذي تصادف هذا الشهر ذكرى مرور 20 عاماً عليه، وفي الأساس من السنوات التي أعقبت الحرب. الانتشار بالقرب من الحدود سمح لـ"حزب الله" بالمبادرة والقيام بهجوم الخطف في مزارع شبعا في تموز 2000، ومحاولة الخطف الفاشلة في قرية الغجر في تشرين الثاني 2005، وعملية الخطف في تموز 2006 التي أشعلت حرب لبنان الثانية. خط التماس في لبنان هو أيضاً المنطقة التي اختارها "حزب الله" للرد على هجوم إسرائيل على أماكن أُخرى في لبنان أو على قواته العاملة في سورية. منذ سنة 2006، أحياناً كرد على عمليات نُسبت إلى الجيش الإسرائيلي، زرع "حزب الله" عبوات ناسفة على طول خط التماس، في الأساس في مزارع شبعا. بعد الهجوم الذي شنه الجيش الإسرائيلي في الجولان في كانون الثاني 2015، والذي قُتل فيه 7 ناشطين من "حزب الله" وجنرال إيراني، أطلق "حزب الله" 6 صواريخ كورنيت ضد دبابات من مكان قريب من الخط الأزرق، وقتل مقاتلين اثنين من الجيش على سفوح مزارع شبعا. عدد المصابين في الحادثتين استتبع رداً محدوداً للجيش الإسرائيلي. في نهاية آب 2019 هاجمت إسرائيل خلية تابعة لفيلق القدس في سورية وكان بين القتلى لبنانيان اثنان. في اليوم عينه، نُسب إلى إسرائيل هجوم في قلب بيروت قامت به مسيّرة ضد مكوّن عائد إلى مشروع الصواريخ الدقيقة. في مطلع أيلول، رد "حزب الله" على الحادثتين بإطلاق 3 صواريخ كورنيت باتجاه مبنى الجيش في أفيفيم ومركبة عسكرية بالقرب من يارون. الصواريخ أخطأت هدفها، ونظراً إلى عدم وقوع إصابات، امتنع الجيش الإسرائيلي من القيام برد فتاك أو واسع، واكتفى في الأساس بإطلاق قنابل دخانية. في ليل 17 نيسان، جرى خرق السياج الأمني في 3 أماكن رداً على الهجوم على سيارة تابعة لـ "حزب الله" في سورية قبل يومين.
مقارنة بإطلاق صواريخ متفرقة من العمق، فإن هجمات موضعية من مدى قريب، مثل عبوات ناسفة وقنص، وفي الأساس إطلاق صواريخ مضادة للمدرعات، هي الأكثر فتكاً في الأيام العادية. ولهذا أيضاً، تنطوي على الاحتمال الأكبر للتسبب بتصعيد، في ضوء الصلة المباشرة بين الخسائر وحجم رد الجيش وفتكه، وبينها وبين درجات التصعيد من جهة العدو في الرد على الرد. علاوة على ذلك، مقارنة بالعمليات في العمق التي تجري بسيطرة شديدة من قبل مستويات رفيعة، فإن السيطرة على الرد العملاني على خط التماس ضعيفة وأكثر توزعاً، وتصل إلى مستوى الجندي الفرد. لم يكن صدفة إطلاق صاروخيْ الكورنيت على مركبتين كانتا تتحركان بخلاف التعليمات المعمول بها في المنطقة. دينامية التصعيد معروفة من خلال تجربة حرب لبنان الثانية، وأيضاً من خلال الأحداث التي وقعت في قطاع غزة قبيل عملية "الجرف الصامد": على الرغم من رغبة الطرفين في الامتناع من مواجهة واسعة، كل طرف يقرر "فقط" عملية/ هجوم أو رد محدود، لكنه فعلياً ينتقل إلى مرحلة أُخرى في سلم التصعيد، يتضح لاحقاً أنها أدت إلى حرب.
بالإضافة إلى مخاطر مصدرها تكتيكي، يزيد انتشار "حزب الله" على خط التماس من فرص التصعيد والحرب أيضاً على المستوى الاستراتيجي. في ضوء احتمال التصعيد، يكون المطلوب الحسم بين هجوم استباقي مع ميزاته العسكرية وبين تأجيله لاستنفاد الفرص لمنع التصعيد، أو لاعتبارات سياسية. عشية حرب يوم الغفران [حرب تشرين الأول 1973] اختلف القادة بشأن مسألة هجوم استباقي على القوات المصرية قبل بدء العبور، وامتنعوا من القيام بذلك كي لا تصوَّر إسرائيل كمعتدية. من المحتمل أن يقف قادة إسرائيل أمام مفترق قرار مشابه: الامتناع من عملية استباقية أو تصعيدية رغبة في العودة إلى الهدوء، أو بدلاً من ذلك، وعلى افتراض أن تصعيداً مؤكداً سيحدث، توجيه ضربة استباقية إلى "حزب الله" واستنفاد ميزة المبادرة والمفاجأة.
إن قدرة "حزب الله" على القيام بهجوم بري مفاجئ في أراضي إسرائيل تزيد كثيراً من الضغط على قادة إسرائيل لاتخاذ قرار بهجوم استباقي. في ضوء الخطر الذي تشكله قوات الرضوان على المستوطنات القريبة من حدود إسرائيل، وعدم وجود عمق بين التهديد وأهدافه، تزداد أهمية الاعتبارات التي تضغط نحو قرار مسبق بمهاجمة التهديد قبل تحققه.
انتشار "حزب الله" بالقرب من خط الحدود، والمتزايد مع مرور الزمن، ينطوي على أخطار جسيمة، سواء لتصعيد أو خلال القتال إذا نشبت الحرب. المطلوب من سياسة إسرائيل "معركة بين الحروب" الجمع بين الاستعداد لحرب محتملة وعرقلة تعاظم قوة الخصم وإبطائها، وبين تقليل التهديدات على إسرائيل إذا نشبت، لكن ما لا يقل أهمية عن ذلك تكريس جهود كبيرة لمنعها. في موازاة الجهود المبذولة ضد مشروع الصواريخ الدقيقة، يتعين على إسرائيل العمل على تخفيف التهديد القريب من الحدود الشمالية. على المستوى العملاني، على إسرائيل أن توثق وتكشف بالتفصيل الانتشار والعمليات العسكرية لـ "حزب الله" بالقرب من الخط الأزرق، واستخدام هذا الكشف للضغط على الحزب، وعلى نشطائه، وعلى الذين يقدمون له الحماية، سواء في القرى أم في صفوف الجيش اللبناني والحكومة. على المستوى السياسي، من الصحيح المطالبة بتركيز عمل قوات الأمم المتحدة ضمن إطار أمني محدد بعمق يتراوح بين 3-5 كيلومترات على طول الخط الأزرق، واشتراط المحافظة على حجم قوات اليونيفيل (أكثر من 10 آلاف عنصر) وميزانيتها (نصف مليار دولار)، بحرية وصولها إلى أي مكان ضمن هذا الإطار. والمطلوب أيضاً بذل جهد لتفكيك مواقع الرقابة العملانية للحزب التابعة لمنظمة "أخضر من دون حدود" كذريعة لمنع وصول قوات الأمم المتحدة، أولاً إلى طرق ومناطق مفتوحة، ولاحقاً أيضاً إلى مبان.
علاوة على ذلك، يجب العمل مع المجتمع الدولي، وخصوصاً مع الولايات المتحدة ودول أوروبية موقفها مشابه لموقف إسرائيل (في هذا المجال يمكن الإشارة إلى ألمانيا التي صنفت مؤخراً "حزب الله" بكل أجنحته كتنظيم إرهابي، في مقابل فرنسا التي تصر على الامتناع من ذلك)، من أجل اشتراط تقديم مساعدة اقتصادية وعسكرية للبنان بالترتيبات الأمنية التي ذكرناها سابقاً على طول الخط الأزرق. الأزمة الاقتصادية العميقة في لبنان تزيد من حاجة حكومة بيروت و"حزب الله" إلى مساعدة دولية، وتزيد من ضغط المجتمع الدولي للمطالبة بواسطتها، وبناء على قرار مجلس الأمن، باتخاذ خطوات تبعد الحرب. في المقابل، يجب السعي لتصنيف أصحاب مناصب في الحكومة اللبنانية، وفي الجيش، وفي أجهزة الأمن، وفي السلطات المحلية كمؤيدين للإرهاب وفرض عقوبات عليهم ما داموا يساهمون في استمرار النشاط العسكري الممنوع لـ "حزب الله" على طول الخط الأزرق.
سلوك إسرائيل إزاء "حماس" في السنوات الأخيرة يثبت أن في الإمكان التوصل إلى تفاهمات وترتيبات أمنية في مقابل تسهيلات اقتصادية حتى مع تنظيم عدو شرس. وبينما ثمن الحرب في لبنان أكبر بكثير من ثمن الحرب في قطاع غزة، يجب إيجاد وسائل مشابهة أيضاً إزاء "حزب الله"، وبقوة أكبر.

عن "مباط عال"
*باحث في معهد دراسات الأمن القومي.