بقلم: حيمي شليف
غداً، عندما سيسمع رئيس الوزراء صوته في الجمعية العمومية للأمم المتحدة ضد آيات الله من طهران والاتفاق النووي الفظيع الذي وقع معهم، سيتخذ بالضرورة صورة رجل الامس. ففي أعقاب الاتفاق وبرعاية روسيا، اصبحت ايران الان محورا مركزيا في الصراع المتبلور ضد تنظيم الدولة الاسلامية، الذي احتل الحصرية كعدو للانسانية. وقد أوضح الرئيس فلاديمير بوتين ذلك جيدا في خطابه، أول من أمس، حين أخذ فصلا من خطابية نتنياهو وقضى بان الارهابيين، وليس الايرانيين، هم نازيو زماننا.
هذه هي المنصة التي من خلالها اصبح بوتين، مع دهاء بنيوي واحساس رائع بالتوقيت، نجم الجمعية العمومية. فقد شخص الخوف والرعب الذي سيطر على الغرب لمشهد اللاجئين الذين يدقون بوابات اوروبا، استغل رفض الولايات المتحدة التورط من جديد في الشرق الاوسط وعين نفسه رئيس معسكر الاخيار في كفاحه ضد الاشرار. وحتى لو كان الحديث يدور عن محاولة لصرف الانتباه عن اخفاقاته في الداخل كما يقول الخبراء، وحتى لو كان سيتورط في المستنقع الاقليمي، كما يقدر المحللون، فانه خرج، أول من أمس، في نيويورك، رجلا، رجلاً.
ليس صدفة ان تكبد بوتين عناء الثناء على مؤتمر يالطا الذي أرسيت فيه آخر الاسس لمنظمة الامم المتحدة، التي تحتفل بيوم ميلادها السبعين – وليس فقط كلذعة في أنه عقد في شبه جزيرة القرم موضع الخلاف. في المؤتمر، الذي عقد في شباط 1945، تنافس فرنكلين روزفلت، الذي ينازع الموت وونستون تشرتشل، مستنزف القوى من الطاغية جوزيف ستالين، الذي كان في ذروة قوته في اعقاب الانتصار السوفييتي على النازيين. وقد أملى ستالين في حينه على الغرب شروط التسويات ما بعد الحرب وشق الطريق لاستعباد شرق اوروبا؛ وهكذا اصبح نموذجا يتطلع بوتين ومعجبوه لمحاكاته.
في الظروف غير السهلة هذه قرر الرئيس اوباما تبني المبدأ الذي بموجبه خير الدفاع هو الهجوم، وربما أيضاً التعليمات الشهيرة التي أملاها على نفسه الراحل موشيه سنيه في أحد الخطابات التي اضطر فيها للدفاع عن سياسة التجلد للهغناة في عهد قيام الدولة: «اذا كانت حجتك ضعيفة، فارفع صوتك». وقد هاجم اوباما بحدة، حتى وإن لم يكن دوما بشكل مباشر، خطوات بوتين في سورية وفي اوكرانيا، استعرض انجازاته السياسية مع ايران وفي المصالحة مع كوبا واغدق المدائح على الاتفاقات الدولية، الخطوات الدبلوماسية وقوة الديمقراطية. فالانظمة التي تخاف مواطنيها، قضى اوباما، في غمزة لبوتين ايضا، نهايتها الانهيار.
فوجئ أوباما بالتأكيد في الأسابيع الأخيرة بالسرعة والحزم لخطوات بوتين: تواجده العسكري المعزز في سورية، الاتفاق الاستخباري الذي وقعه مع العراق، المحادثات التي أجراها على ما يبدو خلف الكواليس مع ايران وربما ايضا المبادرة التي عرضها، أول من امس، لاقامة محفل مشابه لدول P5+1 ليدير من الان فصاعدا الكفاح ضد «الدولة الاسلامية»، مثلما أدار محادثات النووي مع ايران. أما اوباما فواصل المطالبة باسقاط بشار الاسد، ولكن في «انتقال مرتب»، الصيغة التي يمكن ان يتعايش معها بوتين والرئيس روحاني على حد سواء. وفي صالح بوتين يقال انه وضع حدا لانفصام الشخصية الذي ميز حتى الان نهج الغرب، ويمكن صياغته بعبارة اخرى بالصياغات التي وضعها بن غوريون ورابين: نقاتل ضد «الدولة الاسلامية» حتى لو كان الامر يخدم مصالح الاسد، ونقوض حكم الاسد حتى لو كان من شأن ذلك أن يؤدي الى انتصار «الدولة الاسلامية». من الان فصاعدا، ستدار المعركة على الدور وليس بالتوازي: بداية «الدولة الاسلامية» وفقط بعد ذلك، اذا كان على الاطلاق، نظام الاسد.
من ناحية اسرائيل ونتنياهو، فان الواقع قد يتغير حتى في ظل سفر رئيس الوزراء الى نيويورك. فقد اختار بوتين ان يربط نفسه أولا وقبل كل شيء بالمحور الشيعي، الذي يتحرك من طهران عبر بغداد، دمشق، وربما بيروت ايضا. ويدحض الامر بقدر ما اقوال اولئك الذين يتبنون «اعادة انتشار» اسرائيل في المنطقة، ولكنه لا بد أقلق ايضا الدول السنية التي تقف جانبا على رأسها السعودية، التي تتدهور نحو مواجهة جديدة مع طهران حول مئات القتلى الايرانيين في مصيبة مكة. ويخلق الامر فراغا قد يدخل فيه اوباما ويوسع الامكانيات للتعاون خلف الكواليس مع اسرائيل.
دليل قاطع آخر على الثورة التي تجري من حولنا يمكن أن نجده بالذات في الاقوال التي لم يقلها اوباما. فلاول مرة منذ سنوات عديدة، لم تذكر اسرائيل ونزاعها مع الفلسطينيين، ولا حتى بكلمة واحدة. ويعكس الامر سلم الاولويات الجديد للادارة الأميركية في الشرق الاوسط، وربما ايضا يؤشر الى ان اوباما لا ينوي التورط مرة اخرى مع اليهود. لقد درج الاعلام الاسرائيلي على الشكوى من الاهمية المبالغ فيها التي يوليها الغرب للنزاع؛ ولنرَ الان كيف سترد حين تكون حجتها قد اخذ بها، وشؤونها دحرت الى الزاوية.
عن «هآرتس»