الرواتب في علم الغيب.. أزمة تُنهك الموظفين وتُلحق الضرر بالاقتصاد الفلسطيني!

صرف رواتب السلطة بغزة
حجم الخط

رام الله - وكالة خبر - آمنة غنام

معركة صمود جديدة يخوض جولاتها الموظفون الذين بات قوت يومهم بعيداً عن متناول أياديهم، خاصةً أنّ الأمر لم يقتصر على الموظفين بل طال التجار والمحال التجارية، ويُعلن بذلك موت الحياة الاقتصادية في الضفة الغربية وقطاع غزة.

ومع رفض السلطة الفلسطينية استلام أموال المقاصة من الحكومة "الإسرائيلية" بسبب اقتطاع الأخيرة رواتب الأسرى والشهداء، واعتراضاً على سياسة الضم والتوسع الاستيطاني المسعور على أراضي المواطنين، بات الموظفون دون راتب أو عائد مالي وأصبحت رواتبهم في علم الغيب.

بين العتمة ولقمة العيش

أجمع الموظفون على ضرورة الخطوة المتخذة في وجه الاحتلال لردعه عن الاستمرار في ممارسته الممنهجة ضد كل ما هو فلسطيني، ولكن يبقى قوت أطفالهم هو الخط الأحمر الذي يُوجعهم المساس به.

الموظف أحمد صبح من مدينة رفح جنوب قطاع غزة، بات غير قادر على تعبئة كرت "الكهرباء" لبيته في عداد الدفع المسبق، ما جعله يترك منزله ويذهب بعائلته لقطعة أرض نائية يمتلكها لوجود فيها خط كهرباء بعداد قديم.

أما المواطن ياسر حسنين، قال: "أرسلت زوجتي وأبنائي لمنزل أهلها لتوفير لهم لقمة طعام، فثلاجتنا خالية وصاحب البقالة أغلق بابه أمام الدائنين ولم أملك أي حلول أخرى تسعفني في إطعام أطفالي".

كذلك الحال مع الموظف يزيد أبو عمرة الذي قال بحرقة إنّه لم يتمكن من توفير "كيس شيبس" لطفله الذي لم يتجاوز الأعوام الأربعة، بعد أنّ رفض صاحب البقالة تسجيل قيمته على دفتر الدين، كونه ليس من الضروريات ويُعد من الكماليات.

من جهته رأى الموظف شوقي الخواجة أنّه يتعين على البنوك أنّ تقف بجانب المواطنين الذين اقتربوا حد التسول من خلال صرف سُلف لهم وتستردها بعد صرف الراتب، لأنّ متطلبات الحياة زادت على كاهلهم ولم يبق لهم باباً يطرقونه، مُردفاً: "عند الخصومات تكون جاهزة  سكاكين البنوك لأكل لحم الموظف أما الآن فهي (دان من طين ودان من عجين)" .

كما أقدم المواطن أبو إبراهيم السردي على عرض قطع من أثاث بيته ليتمكن من توفير متطلبات الحياة لعائلته، حيث بدأ بالغسالة وثم الفرن الكهربائي، وقال: "أنا لدي خمس أبناء ولهم متطلبات الحياة والطعام وأكبرهم تحتاج لتسديد القسط الجامعي منذ الفصل الماضي"، مُتسائلاً: "كيف تتمكن من التسجيل للفصل الجديد؟ فماذا تتوقع مني أنّ أفعل لأؤمن لأبنائي مقومات الحياة؟ هل أسرق ؟؟  حتى لو اضطررت لبيع كل عفش بيتي فأنا لا أملك أي حل بديل ".

دائرة التزامات

الشوارع والأسواق باتت تخضع لمنع تجول اختياري بعد ازدياد الأزمة الاقتصادية وتأخر الرواتب، والمحال التجارية تفتح صباحاً وتغلق مساءًا بشواقل معدودة لا تُغني ولا تسمن من جوع.

وقال التاجر أبو رائد القططي صاحب شركة لتوزيع المجمدات: "إنّ أزمة الرواتب أثرت عليهم كالموظفين تماماً، فالموظفين وإنّ تأخرت رواتبهم في النهاية سوف يستلموها ولكنّ التجار من سيعوض خساراتهم بسبب الأزمة الحالية"، مُضيفاً: "كفلسطيني موقف مشرف لنا أنّ تكون لنا كلمة في وجه الاحتلال ولكنّ كمواطن ولديّ تجارتي والتزاماتي من أين سأسدها".

من جانبه، قال أبو موسى منصور صاحب محل للخضروات والفواكه: "الكثير من المواطنين  يعاتبوني بل وتصل حد القطيعة لأني أوقفت الدين ولكن ليس بيدي حيلة فأنا أيضاً مُلزم بتاجر أكبر أعطيه المال ليورد لي بضاعة أما الآن لا مال ولا بضاعة ".

شركاتنا الوطنية

وضمن تضييق الخناق على الموظفين في قطاع غزّة بدأت مصلحة المياه وشركة الكهرباء بإرسال إخطارات إما الدفع أو وقف الخدمات، بالإضافة إلى حجب خطوط الإنترنت والاتصالات.

وفي تعقيبه على هذه الإجراءات، قال النائب جهاد طميلة: "إنّ صمود الموظف دون الراتب مقاومة وواجب وطني في هذه المرحلة الحساسة والحرجة التي تمر بها قضيتنا الوطنية، ولكنّ لا نطلب من الموظف وحده أنّ يصمد ويصبر ويقاوم ويتصدى لأخطر هجمة تتعرض لها قضيتنا الوطنية، فالوطن للجميع"، مُؤكّداً على ضرورة توحد كل مكونات المجتمع من عمال وموظفين ورجال أعمال وشركات استثمارية ونُخَب سياسية.

وأضاف: "من غير المعقول أنّ نُطالب أكثر من 170 ألف موظف بالصمود ونخوِّن كل من يطالب براتبه، بينما شركات المياه والكهرباء والاتصالات والإنترنت تُطالبهم بتسديد الفواتير، ناهيك عن رسوم الجامعات، ومطالبة أصحاب البيوت بأجرة منازلهم"، مُشيراً إلى ضرورة توفير مقومات الصمود للموظفين قبل مطالبتهم بالصمود.

الوضع ينحدر نحو القتامة

أوضح الخبير الاقتصادي أ. ماجد أبو دية أنّ المقاصة هي عائدات الضرائب الفلسطينية التي تجبيها الحكومة الإسرائيلية نيابة عن السلطة، على الواردات من إسرائيل والخارج، مقابل عمولة 3 %، ويبلغ معدل أموال المقاصة نحو 700 مليون شيكل شهرياً، تقتطع منها إسرائيل حوالي 200 مليون شيكل مقابل خدمات يحصل عليها الفلسطينيون، خصوصاً الكهرباء والعلاج في مستشفياتها.

ولفت إلى أن عائدات المقاصة تُشكل حوالي 63 % من إجمالي الإيرادات العامة للسلطة، واتخاذ السلطة قرار بعدم استلام أموال المقاصة، يعني أنّ وزارة المالية لن تكون قادرة على إدارة شئون السلطة الفلسطينية، وصرف رواتب موظفيها، تزامناً من مواجهة جائحة كورونا التي تسببت في انخفاض حاد بإيرادات السلطة نتيجة توقف الأنشطة الاقتصادية، بما في ذلك انخفاض عائدات المقاصة نفسها نتيجة تراجع الاستيراد والاستهلاك على مدى الأشهر الثلاثة الماضية.

من جهةٍ أخرى تساءل أبو دية: "كيف تقوم السلطة برفض استلام أموال فلسطينية ليس للإسرائيلي أيّ حق بها أو حتى بالانتفاع منها في حال بقائها في حسابات وزارة المالية الإسرائيلية، بينما لم تتبنَ السلطة أيّ استراتيجية للتحرر من اتفاقية باريس التي تُقيِّد الاقتصاد الفلسطيني، ومازالت منافذه الوحيدة إلى العالم الخارجي هي المعابر والموانئ الإسرائيلية".

وتابع: "نحن هنا لا نريد أنّ نتساءل عن أموال الدعم الخارجي التي حصلت عليها السلطة لمواجهة انتشار وباء فيروس كورونا، ولا حتى عن الأموال التي جمعها صندوق وقفة عز التي تجاوزت 60مليون شيكل، لتعويض المتضررين من جائحة كورونا، مما خفف من الأعباء عن الحكومة، وكنا مطمئنين للتفاهمات التي أجرتها وزارة المالية مع سلطة النقد بهدف الحصول على قرض بقيمة 400 مليون دولار من البنوك، لتمويل العجز المالي للسلطة بسبب تراجع إيراداتها المحلية وأموال المقاصة".

وأردف: "المفاجئة كانت تكمن في أنّ وزارة المالية تُعاني من عجز مالي كبير، يُعطل قدرة السلطة على دفع رواتب موظفيها، فهذا يستدعي مراجعات حقيقية، ليس على الصعيد المالي فحسب بل أيضاً على الصعيد الوطني، لنعرف أين نقف نحن بالضبط".

كما أكّد على أنّ طبيعة الصراع مع الاحتلال تفرض بشكل دائم تقوية الجبهة الداخلية، وتعزيز صمود الموظفين وعائلاتهم، وعدم تركهم عُرضة للفقر والمرض والديون، مما يشغلهم عن قضياهم الجوهرية الوطنية، والحد من قدرتهم على إسناد خيارات التحدي الصعبة القادمة.

واستدرك أبو دية: "السلطة كانت محقة في إلغاء اتفاقية القرض التجميعي بقيمة 800 مليون شيكل الذي تفاهمت عليه مع وزارة المالية الإسرائيلية بهدف الحفاظ على حد أدنى لأموال المقاصة بقيمة 500 مليون شيكل، يمكِنها من موائمة الصرف على كافة البنود التشغيلية ورواتب الموظفين".

 وتابع: "المنطق يقول إنّه على السلطة أنّ تستمر باستلام أي مبالغ من حقنا في أموال المقاصة، لتستمر بصرف رواتب موظفيها وإدارة شؤونها، حتى وإنّ كانت بنسب أقل، لا أنّ تُخاطر بالتوقف التام عن استلامها، في ظروف وأوقات هي تعرف مدى هشاشتها".

وبيّن أنّه لا يجب أنّ يُدار الصراع مع الجانب الإسرائيلي بمنطق خلق الأزمات، لأنّ الخاسر الأكبر فيها هو المواطن الفلسطيني والموظف البسيط الذي لا يمتلك أكثر من راتبه الشهري.

وقال: "إنّ استمرار السلطة بتبني سياسة "الحرد" من إسرائيل ورفض استلام أموال المقاصة التي هي من حق الشعب الفلسطيني دون اللجوء لخيارات حقيقية تُحافظ على الاقتصاد الفلسطيني من الانهيار، فإنّ الوضع الاقتصادي ذاهب لمزيد من التدهور ولن يكون القطاع الخاص وحده قادر على الحفاظ على الحياة الاقتصادية، وسيصاب بانتكاسة تُحول دوره إلى هامشي، وسينتشر الفقر، وترتفع معدلات البطالة"، مُتوقعاً إغلاق العديد من المشاريع المحلية أبوابها في ظل الأزمة الراهنة.