الولايات المتحدة تنحاز للجانب التركي في ليبيا

حجم الخط

عدلي صادق يكتب

في محاذاة الضجيج الدبلوماسي حول ليبيا، ومع الإرجاء الفجائي، في الساعات الأخيرة، لزيارة العمل التي كان من المفترض أن يبدأها وفد روسي رفيع المستوى إلى أنقرة؛ تدور رحى سباق محموم في تحشيد عناصر القوة والسلاح في ليبيا، وقد ألقى هذا السباق بظلاله على السجال الأميركي الروسي.

وكان من المفترض، وصول وفدٍ روسي رفيع، يوم الاثنين الماضي، إلى تركيا، يضم وزير الخارجية، سيرغي لافروف، ووزير الدفاع، سيرغي شويغو، لإجراء مباحثات تتعلق بليبيا.

ما حدث مؤخراً في الحرب الليبية، كان له صداه الدبلوماسي الواسع، وجعل كافة الأطراف الدولية المعنية بالصراع، تسارع إلى ترتيب أوراقها ومنهج عملها، دون الاكتراث للسياق الدبلوماسي الجاري وما سيتمخض عنه.

ومعلوم أن هذا جاء بتأثير النتائج الميدانية الأخيرة، التي شهدت تراجعات سريعة للجيش الوطني الليبي الذي يقوده المشير خليفة حفتر، إذ جرى فك الحصار الذي استمر لأكثر من سنة، على العاصمة طرابلس، وتمت سيطرة قوات “حكومة الوفاق” على محيط العاصمة، بدعم عسكري تركي كبير، قلب موازين القوى في غربي ليبيا.

وسرعان ما أشارت تموضعات وحركة القوات المتقدمة، إلى أن هدفها استباق أي نتائج دبلوماسية، إقليمية أو دولية، للتقدم إلى مدينة سرت الاستراتيجية، على مقربة من قوس النفط. في هذه الأثناء، كانت، ولا تزال تجري، مباراة لا تقل ضراوة، دون الإعلان عنها أو التصريح بسياقاتها، بل ظلت محاطة بالأسرار.

عندما نقلت تركيا، لحكومة طرابلس، بطائرات ليبية وأخرى قطرية للنقل العسكري، من طراز “بوينغ غلوب ماستر”، السلاح والمرتزقة السوريين، وطائرات متنوعة من بينها المسيرات؛ أرسلت موسكو مقاتلين سوريين ليحاربوا على الجبهة الأخرى، وانطلق هؤلاء إلى شرقي ليبيا من قاعدة حميميم، عبر خطوط شركة “شام” السورية الخاصة.

ثم نقل الروس عدداً من طائرات ميغ 29 وسوخوي 24 إلى شرقي ليبيا. وذكر الجنرال الأميركي ستيفن تاونسند، أن الطائرات الحربية الروسية، أظهرت بجلاء أن موسكو “عازمة على التورط في ليبيا”.

بدا الأميركيون متعاطفين مع حكومة السراج والتدخل التركي، وقد ظهر ذلك من خلال تصريحاتهم بشأن التطورات الميدانية. ومن المفارقة، أن الجنرال تاونسند، هو قائد ما يسمى “قوة المهام المشتركة ـ عملية العزم الصلب” التابعة للقيادة المركزية الأميركية، وهي التي شُكلت حصراً، لمحاربة “داعش” والفصائل الإرهابية.

وموضع المفارقة، أن هذا الجنرال، كان معنياً بانكشاف الجيش الليبي الذي يقوده حفتر، وبأن تتقدم على حسابه القوات التي تتشكل من خليط “داعشي” وأصولي قادم من سوريا. فالرجل يقول متبرماً أنه “شاهد تطيير المقاتلات الروسية من الجيل الرابع في أجواء ليبيا، وأن الأمر يبدو كحرب باردة جديدة”.

غير أن المسألة بالنسبة للأميركيين، حسب ما يدل كلامهم؛ ليست غراماً برئيس “الحكومة السراج ولا بأردوغان، ولا بداعش”. ليس أوضح على ذلك ولا أبلغ، من الكلام الذي نطق به جيمس جيفري، المبعوث الأميركي إلى سوريا، الذي قال “لقد كنا معنيين بتحويل سوريا إلى مستنقع لروسيا، وها هي الآن، تربط ليبيا وسوريا وتركيا معاً”.

قد تكون مثل هذه التصريحات، هي ما استحثّ الروس، على تهدئة اللعب في الشمال السوري، وعلى الميل إلى مناقشة أنقرة في ترتيبات جديدة للطريق الدولي M-4 السريع، ذو الأهمية الاستراتيجية العسكرية والاقتصادية، وإبرام صفقة جديدة، تعزز الاتفاق على تسيير دوريات مشتركة. وما أن أظهرت موسكو هذا الاستعداد، حتى رحبت به وسائل الإعلام التركية الموالية للحكومة، أي وسائل الإعلام نفسها التي ظلت تهاجم روسيا بسبب مزاحمة تركيا في ليبيا.

اللافت أن الأميركيين، كانوا معنيين بكشف دور روسيا، وعرضوا للأتراك، صور الطائرات الروسية وهي في طريقها إلى ليبيا. فالمسألة بالنسبة لهم، تندرج في إطار المنافسة على النفوذ في البحر المتوسط. ففي شهر أبريل الماضي، حلقت طائرة روسية من طراز سوخوي 35 بالقرب من طائرة (بي 8) تابعة للبحرية الأميركية، فرد الأميركيون بدفع طائرة (أف 22) لاعتراض طائرة روسية من طراز (توبوليف 142) بالقرب من ألاسكا.

ويرى الأميركيون الآن، أن مسرح المنافسة، يتركز في ليبيا، وأن (سوخوي 35) قادمة، ولعل هذا الذي جعلهم يغضون الطرف، عن ضخ السلاح والميليشيات من شمالي سوريا إلى طرابلس، مع تأسيس بنية عسكرية تركية في غربي ليبيا. فقد رفع الجنرالات الأميركيون، وتيرة التشكي، وقالوا إن الروس، قاموا بـاعتراض غير آمن في البحر المتوسط، وها هم الآن، يستعرضون عضلاتهم في ليبيا.

من هنا بدأ الغمز واللمز الأميركي، بمعانٍ ضمنية، تذكر الروس، بأن مهمتهم في ليبيا ليست سهلة. وقد استخدمت في هذا السياق، إشارات لتذكير روسيا بتخلفها تقنياً عن الولايات المتحدة. وقيل إن الروس، يتحركون بشكل ظاهر، ويكشفون أنفسهم، بينما الأتراك يراعون السرية، ولديهم وسائل أفضل في الحرب الإلكترونية، قادرة على إبطال التقنية التشغيلية العسكرية الروسية. وأضافوا للتذكير “أليست تركيا عضواً في حلف الناتو ودولة ذات تقنية عالية؟”.

هذا، على الأرجح، ما جعل الروس يشعرون أنهم في موضع الاختبار والتحدي. ويبدو أنهم رتبوا حساباتهم وأوراقهم، لتثبيت تركيا في شمالي سوريا، والدخول في عملية استكشافية لأوضاعها وخططها في ليبيا، وفي الوقت نفسه، العمل مع فرنسا ومصر واليونان، في نصب الفخ لأردوغان، على أن يفتحوا في اللحظة المناسبة، ملف “داعش” في ليبيا، لإحباط خطط الحلف التركي.

الرئيس بوتين، يعمل بعقلية المخابرات، ويعلم بأن تركيا ماضية في استقطاب الموقف الأميركي، وقد اتفقت مع إسرائيل على استضافة طائرات “العال” الإسرائيلية، للتموين بالوقود واستئناف رحلاتها إلى نيويورك، وقد بدأ الخط في العمل ونقل معدات طبية إسرائيلية إلى الولايات المتحدة.

الأميركيون يتساءلون، ماذا سيفعل الروس بطائراتهم في ليبيا؟ فالطائرات تهبط في قاعدة “الخادم” على بعد ألف كيلومتر من قاعدة “الوطية”، رغم أن المطار لا يحتوي على خدمات أرضية مناسبة؟ فهل يستكملون تدخلهم لكي يبدؤوا حرباً باردة جديدة؟

هذا الكلام، معناه أن الأميركيين حسموا أمرهم إلى جانب تركيا، بينما حلفاء أردوغان، لا زالوا يتهمون الأطراف الأخرى، بالانخراط في مخطط صهيوني في ليبيا. ولعل من بين دلالات أن الأميركيين ليسوا ضد الجماعات الإرهابية، عندما يجري استخدامها لصالحهم، تماماً مثلما فعلوا في أفغانستان. نأمل أن تعي الأطراف العربية هذه الحقيقة، وأول هذه الأطراف المشير حفتر نفسه.