تكتسب أزمة سد النهضة أولويتها من طبيعتها، فهي مسألة وجودية لمصر، حيث نهر النيل هو المصدر الرئيسي للمياه، ونضوب موارده يفضي إلى شح مائي كبير لا تحتمل القاهرة تداعياته على الحياة نفسها، ومستقبل الأجيال القادمة. ورغم أن أزمة الصراع في ليبيا هي قضية أمن قومي بامتياز، ولا ينبغي الانشغال عنها، لكنها لا تنازع أزمة سد النهضة، على خرائط القلق العام في مصر.
ومنذ تولى الرئيس عبدالفتاح السيسي مسؤولية الحكم في مصر، تبنت القاهرة مقاربة تعاونية واضحة تجاه إثيوبيا استهدفت أساساً بناء الثقة مع الشعب والقيادة الإثيوبية والسعي لتغيير بعض من الإرث التاريخي المضطرب بين البلدين. وفي هذا السياق، كان الرئيس السيسي هو أول من بادر إلى زيارة إثيوبيا ومخاطبة البرلمان فيها والتأكيد على أن مصر تدعم تماماً عملية التنمية الشاملة فيها، وأنها ليست ضد بناء سد النهضة.
في الوقت ذاته، وبدعمٍ من الحكومة المصرية أقبل القطاع الخاص وقطاع الأعمال في مصر على الاستثمار في إثيوبيا في مجالات متنوعة بما فيها الزراعة والأمن الغذائي والصناعة، كما قدمت مبادرات عديدة لتعاون تنموي واسع مع إثيوبيا.
وكان الهدف من المقاربة المصرية هو بناء الثقة وتوجيه رسالة قوية بأنه كما تعترف مصر بمصالح إثيوبيا في مياه النيل إلا أنها تتوقع اعترافاً مماثلاً بمصالحها فيه. ولكن أديس أباب تبنت موقفاً متعنتاً، وبدا أن جل ما تريده القيادة الإثيوبية هو الاحتفاظ بالحق الحصري في التحكم الكامل في تدفق مياه النيل كهدف استراتيجي تاريخي، تحت غطاء توليد الطاقة الكهرومائية وتنمية البلاد، بينما يتلخص المطلب الرئيسي لمصر من المفاوضات في تأمين الحصول على الحد الأدنى من تدفق مياه النيل.
وانتقلت أزمة سد النهضة الإثيوبي إلى مرحلة جديدة بعدما أحالتها مصر إلى مجلس الأمن الدولي، وتكشفت ملامح رؤية إستراتيجية عميقة، رؤية تعتمد على أن قضية السد لها انعكاسات غائرة على ملفات إقليمية وداخلية ساخنة تواجهها القاهرة، منها الملف الليبي.
وتبدي القاهرة إصراراً كبيراً على حسم النزاع حول السد الإثيوبي، دون الإذعان للأمر الواقع الذي تسعى إثيوبيا لفرضه على مصر، وتجلى ذلك في كلمة وزير الخارجية المصري سامح شكري، باجتماع مجلس الأمن، خاصة حين قال: «رغم أن موقفنا يظل هو أن الحل الناجع لمسألة سد النهضة يتمثل في التوصل إلى اتفاق عادل ومتوازن، إلا أن مصر سوف تحفظ وتؤمن المصالح العليا للشعب المصري.
فبالنسبة لمصر تكتسب أزمة المياه أولويتها المطلقة من وجوديتها، فإذا ما تعرضت لأضرار جسيمة لا يمكن استبعاد سيناريو واحد على حافة الحياة والموت- بما فيه الخيار العسكري-.
ولأكثر من عشر سنوات تمددت أزمة سد النهضة في مفاوضات تراوح مكانها دون تفاهمات جدية تؤسس لاتفاق قانوني ملزم، عادل ومنصف، يوفر لإثيوبيا حقها في الكهرباء والتنمية ويضمن لدولتي المصب مصر والسودان الحق في الحياة. وتريد أديس أبابا التعامل مع النيل الأزرق باعتباره سداً إثيوبياً خالصاً وليس نهراً دولياً، يخضع للاتفاقيات الأممية، ولا تريد أن تعترف بحصة مصر من المياه ولا تريد أي اتفاق مكتوب وملزم قانوناً، خصوصاً فيما يخص آلية فض المنازعات فيما بعد. وكما أن ملف سد النهضة هو بالنسبة لمصر مسألة وجود، كما هي مسألة شرعية حيث الحفاظ على مياه النيل المصدر الرئيسي للشرعية منذ الحضارة الفرعونية. فهو بالنسبة لإثيوبيا مصدر شرعية في ظل أزمات داخلية سياسية متفاقمة بين أعراق متناحرة.
ودخلت الاحتجاجات الشعبية الحالية في إثيوبيا، والتي اندلعت عقب مقتل المغني الشهير، هاشالو هونديسا على خلفية قومية، على خط أزمة سد النهضة، وحسب المتابعين ستحرص أديس أبابا على استغلال ورقة الاحتجاجات كمبرر للتشدد في مفاوضات سد النهضة، وربما تنفيذ تهديداتها بتحركات أحادية الجانب بشأن السد تجنباً لمأزق داخلي متوقع.
وحينما عقدت قمة افتراضية شاركت فيها قيادات الدول الثلاث مع هيئة مكتب الاتحاد الإفريقي برئاسة جنوب إفريقيا، الأقرب إلى إثيوبيا، قبل اجتماع مجلس الأمن. جرى التوافق -بحسب إفادتي مصر والسودان عن نتائج القمة الإفريقية المصغرة- على استكمال التفاوض حتى يمكن توقيع اتفاق ملزم خلال أسبوعين، وأن تمتنع إثيوبيا عن ملء خزان السد لحين توقيع هذا الاتفاق، ولكن أثيوبيا تهربت من هذه التوافقات.
ويبدو جلياً، أن الإستراتيجية الأثيوبية في إدارة أزمة سد النهضة، تعمل على التحكم في استخدام مياه النيل الأزرق والسيطرة الكاملة على موارده العابرة للحدود دون أي ضوابط وقيود قانونية. بعيداً عن روح اتفاق «واشنطن» الذي استضافه وزير الخزانة الأميركي وبمشاركة البنك الدولي كمراقب، ويراعي اتفاق واشنطن مصالح الدول الثلاث – مصر والسودان وأثيوبيا -واعتبارات العدالة، كما يأخذ الحالة الهيدرولوجية لمياه النيل في الاعتبار، والقضايا البيئية والاجتماعية المرتبطة بملء السد وتشغيله، وآلية للتنسيق الدوري المشترك فيما بين الدول الثلاث على المستويين الوزاري والفني للإشراف على تنفيذ الاتفاق.
ورغم أهمية سد النهضة بالنسبة لأثيوبيا، حيث ان حوالى 86 في المائة من مياه النيل التي تصل لسد أسوان تأتي من المرتفعات الإثيوبية. ولم تتمكن إثيوبيا من الاستفادة من موقعها الجيواستراتيجي لعقود طويلة. وأدى نقص التمويل والوضع السياسي غير المستقر إلى منع التوسع في البنية التحتية وهو ما تغير اليوم. ويشكل سد النهضة مصدر شعور بالفخر الوطني لدى الإثيوبيين الذين شاركوا فيه بشراء سنداته، خصوصاً أن أثيوبيا واحد من أفقر البلدان في القارة الإفريقية وتعلق آمالاً اقتصادية كبيرة على السد، في وقت يعاني فيه نصف السكان من الفقر. حيث ترى إثيوبيا أن تصدير الكهرباء مشروع واعد في بيئة داخلية وإقليمية تفتقر لذلك، وبالتالي الكميات الكبيرة التي سيوفرها سد النهضة كافية لتكون أحد المصادر المهمة للدخل القومي.
ولكن تتجاوز أهمية سد النهضة حكاية أنه مشروع قومي وتنموي تلتف حوله الشعوب الإثيوبية- الذي هو عبارة عن إثنيات عرقية مختلفة-، لمنع التفكك والتشرذم والحدّ من تضخم المشكلات الداخلية، إلى كونه خطة متكاملة تريد تغيير الكثير من محددات المنظومة الإقليمية في قضايا تصدير الكهرباء، وتسليع المياه، وتشييد سدود أخرى، وتدشين إثيوبيا كرقم رئيسي في معادلة التزاحم على الهيمنة في منطقة شرق أفريقيا.
أزمة جديدة تعقد موقف أولمو مع برشلونة
02 يناير 2025