خوف وابعاد في غور الاردن

حجم الخط

هآرتس – بقلم جدعون ليفي

هكذا يكمسون صرصور يستلقي على ظهره وهو يرفرف. أولا، يلقونه في بيت الدرج، وبعد ذلك بعد ضربه بالمكنسة يرمونه الى الخارج. بشكل عام يرسلونه الى موته. عند السماع عن التنكيل بعائلة أبو داهوك، رعاة الاغنام البدو من أبناء قبيلة الجهالين، لا يمكن عدم التفكير بهذا التشبيه لطرد صرصور. هكذا بالضبط تتعامل الدولة مع الرعايا الاكثر ضعفا للاحتلال. رعاة اغنام بدو في هذا الجزء من البلاد الذي تطمع فيه الدولة جدا لأخذه لنفسها، وهو غور الاردن.

​صورة الصرصور الذي تم رميه رافقتنا في اليوم الذي قضيناه في هذا الاسبوع مع رئيس العائلة، ابراهيم أبو داهوك، على انقاض الخيمة الثانية التي طردت منها عائلته في الاشهر الاخيرة. أبو داهوك قال إنه لا يريد مواصلة العيش، حيث أن 30 شخص من أبناء عائلته الموسعة – زوجتاه واولاده التسعة وجميع احفاده الصغار الذين لا يعرف عددهم الدقيق يجدون ملجأ في هذا الوقت من حرارة الصيف القائظة في خيمة لقبيلة بدوية اخرى. في الليل يعودون الى المكان الذي طردوا منه والنوم تحت قبة السماء مع الاغنام، بدون مياه أو كهرباء بالطبع. لا يوجد لهم أي خيار آخر ولا يوجد لهم أي مكان آخر يذهبون اليه.

​طريق الوصول اليهم مرت في هذا الاسبوع بقرية الخان الاحمر، التجمع الاكبر المشهور لابناء عائلة الجهالين والذي يعيش سكانه تحت رعب الهدم والطرد منذ سنوات. العلم الاسرائيلي الكبير الذي تم رفعه قبل نحو سنتين فوق قمة التلة التي توجد قبالة التجمع يثير هنا الخوف، في الوقت الذي تهدد فيه مستوطنة كفار ادوميم من قمة التلة المجاورة. وهي المستوطنة التي يخرج منها المشاغبون ومن يخيفون الرعاة في الخان الاحمر، يومن يغرقون القرية بمياه المجاري ومن يطلقون الكلاب على الرعاة ومن يهاجمون الاولاد وهم ينطلقون بسرعة في الجيبات ويدخلون بشكل بربري الى القرية من اجل زرع الخوف.

​من نفس هذه المستوطنة، شيء لا يمكن تصديقه، ايضا جاءت المجموعة المدهشة التي تثير التقدير وهي “اصدقاء الجهالين”، وهي مجموعة نشطاء لحقوق الانسان الاسرائيليين الشجعان. ويشارك في هذه المجموعة عدد من سكان مستوطنة التنكيل، كفار ادوميم وسكان من مستوطنات اخرى في الغور. روح المجموعة الحية هو البروفيسور دان تيرنر، وهو مدير معهد الجهاز الهضمي للاطفال ونائب مدير عام مستشفى شعاري تصيدق في القدس. تيرنر هو أحد سكان كفار ادوميم. والذيعندما يقوم جيرانه بمصادرة قطعان أغنام الجهالين يهتم بأن يعيدها. وعندما يكون أحد ما بحاجة الى العلاج ايضا حينها يتجند بكل قوته. هذا هو المستوطن الآخر. في هذا الاسبوع خاف تيرنر من أن لا نرتدي الكمامات عند زيارتنا في مجمع أبو داهوك، خوفا على مصير نحو 3 آلاف شخص، الذين هم أبناء قبيلة الجهالين، الذين لم يصابوا حتى الآن بالكورونا. عندما طردوا أبو داهوك وهدموا خيامه سارع تيرنر هو وعدد من اصدقاء الجهالين للتظاهر في المكان. وقد حمل لافتة كانت عليها صورة أبو اسماعيل من الخان الاحمر وكتب عليها شعار “تسوية أو ضم بدون قمع”.

​في قرية الخان الاحمر تعيش 28 عائلة، التي تحولت المدرسة فيها المصنوعة من الطين والاطارات الى مركز الاهتمام الدولي والتضامن. التهديدبهدمها وطرد سكانها تحول الى موضوع في الحملات الانتخابية الاسرائيلية. عيد الجهالين، المتحدث المثير للانطباع في قرية الخان الاحمر، وياعل موآف، مرشدة من القدس ونشيطة في “اصدقاء الجهالين”، رافقانا في الطريق شرقا نحو الغور، الى منطقة دير حجلة. عائلة أبو داهوك طرد الى هنا، على جانبي شارع الغور، في المقطع الجنوبي الذي يسمى طريق غاندي، على اسم رحبعام زئيفي، وكأنهم يريدون الحفاظ على ارث الترانسفير خاصته. وبمجرد وصولنا الى أبو داهوك، أرسل لنا البروفيسور تيرنر تذكير: “ارتدوا الكمامات”. هذا الطبيب المدهش يقلق جدا على جيرانه أبناء عائلة الجهالين.

​الاخلاء

​ابراهيم أبو داهوك (53 سنة) يجلس على بساط قديم تحت سقف ساخن من الصفيح، ويتكيء على عدة الواح آيلة للسقوط بدون جدران. النسيم يهب في كوخ الصفيح المفتوح، الذي اقامه هنا بعد أن هدم بيته للمرة الثانية. هذا هو بيته الآن. والعلامات الوحيدة على وجود سكن بشري هنا هي اسطوانة الغاز الموجودة في زاوية كوخ الصفيح والمنقل الذي يوجد فيه رماد وبقايا السجاد التي تغطيها الغبار والممزقة الموجودة على الارض. قطط صغيرة حديثة الولادة يظهر عليها الجوع وهي تركض متعبة من شدة الحرارة، وتحاول حتى لعق بقايا القهوة في الفناجين من شدة العطش. سيارة اسعاف اسرائيلية تطلق الصافرات وهي تسافر شمالا في طريق غاندي على بعد بضعة مئات من الامتار عن المكان الذي لجأ اليه أبو داهوك.

​منذ العام 2003 سكن أبو داهوك مع عائلته خلف دير غراسيموس المقدس اليوناني الارثوذكسي الذي يوجد شرق طريق غاندي. وقد اضطر الى الانتقال الى هناك من منطقة النبي موسى بعد أن تم الاعلان عن المنطقة كمنطقة عسكرية مغلقة من قبل اسرائيل. دير غراسيموس المقدس شغل أبو داهوك في حراسة هذا الموقع، وفي المقابل سمح لها بأن يسكن في الارض القفر الموجودة خلف الدير، بعيدا عن الشارع الذي يؤدي الى الحدود مع الاردن. يوجد 150 رأس اغنام لعائلته، التي هي مصدر الرزق الوحيد لهم تقريبا، الى جانب عمل الحراسة في الدير.

​خلال 16 سنة لم يزعج أي أحد العائلة في حياة رعيها الهادئة في الغور الصحراوي الصعب هذا، الى أن جاء ذات يوم في نهاية السنة الماضية موظفو الادارة المدنية الى البيت النائي وتركوا بطاقة، حسب ما يسميها أبو داهوك. وقد كتبت البطاقة، حسب قوله، باللغة العبرية، وهي اللغة التي لا يفهمها. وقد تجاهل وجودها. بعد بضعة اسابيع عاد موظفو الادارة المدنية مع بطاقة اخرى، هذه المرة قام بعرضها على محام في اريحا، الذي قال له بأن الامر أصبح متأخر جدا وأنه لا يوجد ما يمكن فعله وأنه يجب عليه اخلاء الارض. متى جاءت البطاقة الاولى؟ أبو داهوك لا ينجح في التذكر. وقد اتصل مع زوجته لسؤالها عن ذلك. أي امرأة هذه؟ قال مبتسما، الزوجة الجديدة يسرى، وهي التي تتذكر بأن هذا كان في 30 تشرين الاول. البطاقة الثانية وصلت في كانون الثاني الماضي.

​في نهاية شهر شباط وصلت قوات من الجيش وموظفون ن الادارة المدنية وطرحوا احتمالين على أبو داهوك: إما أن يخلي بنفسه عائلته وممتلكاته من الارض التي عاش فيها 17 سنة بموافقة اصحاب الجيش وإما أن يقوم الجيش بالاخلاء والهدم على حسابه الخاص. وقد منحوه مدة اسبوع للاخلاء، لكنه لم يكن لديه مكان للذهاب اليه. وحسب قوله سكان الدير اقترحوا عليه البقاء، لكنه خاف من الجيش فقرر اخلاء عائلته وممتلكاته. وقد قال إن أحد موظفي الادارة المدنية قال له بأنه يجب عليه الانتقال نحو الغرب، الى الطرف الثاني للشارع، وهذا ادعاء ينفونه في الادارة المدنية. فهم لم يقترحوا عليه مكان للانتقال اليه، بل فقط أمروه بالاخلاء.

​في الايام التي تلت ذلك بدأ أبو داهوك بنقل ممتلكاته من الطرف الشرقي للشارع الى الطرف الغربي، الى الارض المفتوحة التي توجد قرب حقول النخيل في اريحا. كان هذا في بداية شهر آذار والغور غرق بمياه الامطار. أبو داهوك قام بنقل الخيام والمباني التي يعيش فيها هو وعائلته وممتلكاته على ظهور الحمير وفي الشاحنات وبدأ في بنائها من جديد في الطرف الغربي للشارع، المكان الذي نجلس فيه الآن.

​سافرنا الى الطرف الشرقي للشارع، الى المكان الذي عاش فيه 17 سنة بدون ازعاج. قبب مذهبة تزين الدير، الذي ساحاته معتنى بها وهو فارغ في فترة الكورونا. سافرنا في طريق ترابية نحو الشرق، بيوت قرية الشونة الاردنية تلوح في الأفق، وهناك توجد بقالة صغيرة منحوتة في الصخور. وعلى الكثبان الرملية البيضاء كان بيته. جهاز تلفزيون صغير وقديم محطم.

​الهدم

​في شهر رمضان عاد موظفو الادارة المدنية والجيش في الوقت الذي لم يكن فيه أبو داهوك في البيت. الزوجة لم تفهم ماذا قالوا لها بالعبرية. وغادروا مثلما جاءوا. بعد ثلاثة اسابيع، في الايام الاخيرة من شهر أيار أو ربما في بداية شهر حزيران، هو لا يتذكر بالضبط، جاءت قوات كبيرة من الجيش ومن موظفي الادارة المدنية في الساعة الثامنة صباحا. أبو داهوك كان لا يزال نائم. الجنود أمروا الاولاد بايقاظه. وعندها أمروا جميع أبناء العائلة، الشيوخ والشباب والنساء والاولاد، بمغادرة الخيمة والوقوف في الطريق الترابية المحيطة بحقل النخيل. بعد ذلك بدأوا بهدم ومصادرة كل شيء.

​وقد أخذوا خزانات المياه واجهزة التكييف الستة التي كانت لديه ولوحات الكهرباء الخلوية والشوادر التي غطت اكواخ الصفيح. كل ما بقي قاموا بهدمه بالجرافة. انقاض الخراب تحكي كل القصة. جدران الصفيح مع مواد عزل داخلها، دراجة هوائية لولد محطمة، صورة ممزقة، انابيب مثنية. كل ما تبقى. موظفو الادارة المدنية قالوا له بأن يذهب الى منطقة أ. ولكن الآن يسأل: الى أين سأذهب؟ هل سأعيش على رؤوس الناس؟ لا يوجد لي مكان هناك، لا يوجد مكان أذهب اليه.

​وقد جاء ردا على ذلك من مكتب منسق اعمال الحكومة في المناطق على صحيفة “هآرتس”: “في 3 حزيران 2020 نفذت وحدة الرقابة في الادارة المدنية نشاطات انفاذ للقانون ضد منشآت غير ثابتة اقيمت بدون الاذونات والتراخيص المطلوبة في منطقة دير حجلة الذي يقع في مناطق ج في أريحا. نحن نؤكد على أن تنفيذ القانون تم تطبيقه حسب الاجراءات ووفقا للاعتبارات العملياتية”.

​أبو داهوك قام بارسال أبناء عائلته الى تجمع مجاور على بعد مسافة ساعة مشيا من هنا. وحتى الاسبوع الماضي كان يمكن السفر الى هناك بالسيارات. ولكن السلطة الفلسطينية وضعت سور في المنطقة لمنع الخروج من اريحا بسبب اغلاق الكورونا. الآن هو يعيش هنا تحت سقف الصفيح الساخن وعائلته تنضم اليه مع القطيع كل ليلة بعد ساعة سفر مشيا على الاقدام. وكل بضعة ايام يأتي الجيش الى هنا، وعندها يهرب الاولاد الى حقول النخيل بذعر. وفي يوم الخميس الماضي جاءوا الى هنا من اجل تخويفهم.

​ما الذي سيحدث؟ أنا سئمت من العيش”. “أنا أريد فقط العيش مثل كل الناس. ليتني كنت أستطيع العودة الى الدير”، صرخ في الهواء. إبنه الاصغر هو إبن سنتين ونصف. وحفيده الاصغر عمره شهرين. ايضا والدته العجوز تعيش معهم، وهذا هو كوخها من الصفيح، وهنا كوخ الصفيح للاولاد، وهناك كوخ الصفيح لأبو داهوك وزوجته الثانية، وهذا كوخ الصفيح لزوجته الاولى. ثمانية مبان تم تدميرها، وفقط السجاد الممزق والذي تغطيه الغبار هو الذي تبقى.