لقد حسمت إسرائيل مستقبل الضفة الغربية منذ اليوم الأول لاحتلالها لأرضنا؛ فهى حجر الزاوية والمحور الرئيسي فى المشروع الصهيوني برمته، والقائم فى الأساس على رواية تاريخية توراتية مزعومة مركزها شمال الضفة (السامرة) وجنوبها (يهودا) وهى التسمية التوراتية للضفة الغربية؛ وهى نفسها التسمية الرسمية الاسرائيلية للضفة كذلك، ولو نزعت الضفة الغربية من تلك الرواية المزعومة لما بقي للصهيونية شئ فى هذه الأرض ليزعموا بامتلاكه.
وعليه يجب فهم الاستراتيجية الاسرائيلية فى التعامل مع الضفة الغربية ليس ببعد سياسي لأن البعد السياسي هو بعد سطحى فى تلك الاستراتيجية الصهيونية المتعددة والمتغيرة المراحل؛ والتى هدفها النهائي الثابت هو أن تصبح كل الضفة الغربية جزء لا يتجزأ من إسرائيل السياسية. وبالتالي فكرة أن تتخلى إسرائيل عن الضفة الغربية لكى تصبح جزء من الدولة الفلسطينية هو طعنة ثقافية قاتلة للفكرة الصهيونية برمتها من وجهة نظرهم؛ وسوف يكون لها بالغ الأثر على بلورة ما يعرف بالهوية القومية اليهودية المتعثرة التبلور لاسرائيل كدولة يهودية وسيسرع بوأدها؛ وهو ما سيكون له بالغ الأثر على بقاء دولة إسرائيل كفكرة .
ومن هذا المنطلق علينا دراسة وفهم ما أحدثته اسرائيل خلال النصف قرن السابق فى الضفة الغربية لفهم الاستراتيجية التى تخطط لتنفيذها بمرحلية وبطئ كل الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة منذ العام 1967 وإلى يومنا هذا ليكون بمقدورنا استشراف المستقبل، وهذا لا يتأتى بدون النظر فى خارطة التوزيع الاستيطانى اليهودى والتوزيع الديمغرافى الفلسطيني؛ وكلا التوزيعين اتخذا طابع قسرى خلال العقود الخمس السابقة بفعل قوة الاحتلال العسكرى صاحبة القرار فى كل شؤون الضفة الغربية؛ وما يؤكد ذلك تركيز الاستيطان الاسرائيلى فى منطقة القدس الكبرى كما تعرفها اسرائيل وصولا إلى الشرق بمحاذاة حدود البحر الميت، وهذا التوزيع الاستيطانى المركز فى تلك المنطقة إنما كان هدفه الأساسى منذ اليوم الأول هو تغيير الطابع الديمغرافى لتلك المنطقة حيث وصل عدد المستوطنين فى تلك المنطقة قرابة 300 ألف مستوطن؛ وهو ما يعادل نصف عدد المستوطنين فى كل الضفة الغربية؛ إضافة إلى ذلك فإن تهويد تلك المنطقة سيمكن إسرائيل من فصل الكتلة الديمغرافية الفلسطينية فى شمال الضفة عن جنوبها عبر تلك الكتل الاستيطانية التى تفصل جغرافيا الضفة إلى قسمين شمالى وجنوبي، ومن الملاحظ أن هذه المرحلة قد اكتملت ولم يتبقى فيها بعد ضم القدس الموسعة إلا ضم مستوطنة معالى أدوميم لتكتمل خارطة القدس الكبرى التى لن تبقى للفلسطينين إلا شريط ضيقا للعبور بين الشمال والجنوب، وهو ما يعنى أن ضم معالى أدوميم إلى القدس يعنى إنهاء الأمل فى قيام أى كيان سياسي فلسطينى متواصل جغرافيا وقابل للحياة.
وعلى الطرف الآخر فقد استغلت إسرائيل الربع قرن الأخير واتفاقات أوسلو فى تقييد التوسع الديمغرافى الفلسطينى فى الضفة الغربية عبر تقسيمة المناطق إلى (A,B,C) بينما سمحت بالتوسع فى A الضيقة والمكتظة؛ والتى خضعت أمنيا ومدنيا إلى السلطة الوطنية الفلسطينية، وعرقلت اسرائيل هذا التوسع في مناطق (B) فيما منعته بالمطلق في مناطق(C) والتى تمثل ثلثى مساحة الضفة؛ وتلك الاستراتيجية أدت إلى نتيجة مفادها تواجد أقل للفلسطينيين فى أكبر مساحة جعرافية؛ وأكبر عدد ممكن من الفلسطينين فى أقل مساحة جغرافية . وبنفس المعادلة التى فرضت سابقا فى قطاع غزة أصبح بالضفة الغربية نموذج مماثل قابل للتطور والانقسام مستقبلا لأكثر من نموذج مشابه لغزة فى مناطق الضفة الغربية، وهو ما يسهل اليوم لإسرائيل ضم منطقة الأغوار بأقل عدد ممكن من الفلسطينيين. ولم تكن تلك التقسيمة الجغرافية لمناطق الضفة الغربية بتلك المساحات المتناقضة اعتباطيا؛ فعندما أدركت اسرائيل صعوبة تثبيت مستوطنيها فى منطقة الغور الملتهبة مناخيا أرادت فى المقابل تقليص الديمغرافيا الفلسطينية فيها إلى أقصى الحدود الدنيا.
وعليه فإن إسرائيل تخطط للبقاء فى الضفة الغربية حتى آخر يوم لها على هذه الأرض، وعلينا أن ندرك أن مناطق التواجد الديمغرافى للفلسطينيين فى الضفة الغربية فى ما سيتبقى من مناطق A,B,C طالما تعذر إحداث تطهير عرقى مشابه لما حدث فى العام 1948 فإنها ستتحول إلى معازل شبيهة لقطاع غزة؛ وهى أشبه بمعسكرات كبرى ومخزن كبير للعمالة الرخيصة التى تحتاجها إسرائيل لإدارة عجلة اقتصادها بنفس حاجة سكان تلك المعسكرات لهذا العمل لكى يبقوا على قيد الحياة، لتتحول معادلة أى تسوية من مبدا الأرض مقابل السلام إلى المال والبقاء أحياء مقابل السلام.
وبهذه العقلية الصهيونية الاحلالية لن تتخلى إسرائيل عن الضفة الغربية على طاولة مفاوضات؛ وأى مفاوضات بهذا الصدد دون تفعيل وسائل نضالية أخرى لن تعدوا كونها إدارة ناجحة من إسرائيل للصراع ستحقق من خلالها ما خططت له منذ سنوات طويلة، ونحن فقط الخاسرون فيه وسيستمر مشروع التيه الفلسطيني وفقدان البوصلة وستزداد الانقسامات والشرذمات وسنغدو جماعات متفرقة تصرخ وتشجب وتطالب بحقوقها دون صدى مسموع لصراخها من العالم.