المحددات الاستراتيجية لإدارة الصراع الفلسطيني الاسرائيلى

حجم الخط

بقلم د. عبير ثابت

 

كيف يمكن للفلسطينيين مواجهة الاستراتيجية الصهيونية فى فلسطين وفى الضفة الغربية بالأخص؟ هذا سؤال مطروح ومنطقى لكنه قد لا يكون صحيحا سياسيا فى ظل الوضع الفلسطينى والعربى والاسلامي والاقليمى القائم اليوم؛ وذلك نظرا لأن المواجهة اليوم فى ظل هذا الوضع القائم ستكون محسومة النتائج لصالح إسرائيل وذات أثمان باهظة فلسطينيا؛ والجميع يدرك تلك الحقيقة.  كما أن المواجهة هى عمل جزئي وتكتيكى ضمن أى استراتيجية، لذا فإن السؤال الأصح سياسيا هو كيف يمكن للفلسطينيين إدارة صراعهم مع اسرائيل ضمن استراتيجية طويلة الأمد فى ظل الاستراتيجية الصهيونية فى فلسطين وفى الضفة الغربية بشكل خاص؟؟  والاجابة على هذا السؤال المصحح هى محور هذا المقال.

فإذا اتفقنا أننا أمام إدارة صراع فإننا يجب أن نتفق على أن إدارة الصراع لا تعنى أننا فى مواجهة مفتوحة؛ كذلك لا تعنى أيضا أننا فى حالة سلام أو استسلام مع إسرائيل؛ لكنها تعنى أننا يجب أن نكون فى حالة حرب باردة نراكم من خلالها الانجازات التى تقربنا نحو هدفنا الاستراتيجى بأقل تضحيات وبأكبر إنجازات وبأقل وقت ممكن؛ وعليه فإنه ثمة محددات استراتيجية لإدارة الصراع نوجزها بما يلى:

أولا : الإتفاق الإنتقالى :

لا ينبغي على الفلسطينيين أن يعقدوا مع اسرائيل أى اتفاق سلام نهائى فى ظل الانهيار القائم فى موازين القوى؛ فأي اتفاق فى هذا الصدد سوف يكون ترجمة عملية لهذا الواقع؛ علما بأن اسرائيل تتمنى اتفاق فى هذا التوقيت لكى يحظى الواقع الحالي بأطول عمر ممكن؛ لذا يحظر على الفلسطينيين إبرام أى اتفاق نهائى الآن؛ لأن أى اتفاق لن يكون بأفضل مما هو مطروح اليوم فى ما يعرف بصفقة القرن، وفى المقابل لن يكون هناك فكاك من اتفاق انتقالي؛ ولكن ينبغى أن يتضمن أى اتفاق انتقالي بين الفلسطينيين والاسرائيليين مجموعة من المحددات أهمها كسر قواعد العزل الديمغرافي الذى فرضته إسرائيل على الفلسطينيين فى كل فلسطين التاريخية بحيث يمكن للفلسطيني أن يتنقل ويعمل ويعيش ويعمر فى كامل الضفة الغربية وقطاع غزة دون أى استثناء ودون أى قيود، وبمعنى آخر أن تتحول كل الضفة الغربية وقطاع غزة مدنيا وإداريا إلى التصنيف Aوينتهى التقييد الذى فرضته اتفاقات أوسلو إلى A.B,C ، وينبغى فى المقابل أن يتجمد الاستيطان وتكون المستوطنات فى الضفة الغربية وخاصة تلك التى تتوغل فى العمق الديمغرافى الفلسطينى خاضعة مدنيا وإداريا وربما أمنيا كذلك لادارة مشتركة فلسطينية إسرائيلية إلى حين تحديد مصيرها فى اتفاق سلام نهائى بعد نهاية المرحلة الانتقالية، ويجب أن يضمن الاتفاق الانتقالي الحفاظ على الوضع القائم للأماكن المقدسة فى القدس مع ضرورة إشراك السلطة الوطنية الفلسطينية فى تلك الإدارة؛ كما يجب ضمان كافة الحقوق المدنية والادارية للسكان الفلسطينيين فى القدس بما فيها حقوق البناء والترميم لبيوتهم، ومن البديهى أن يكون هذا الاتفاق الانتقالي مستندا إلى قرارات الشرعية الدولية فى تقسيم البلاد وبالأساس جغرافيا إن لم يكن سياسيا بين العرب واليهود كما يجب لأى اتفاق من هذا القبيل أن يكون مفتوح النهايات للوضع النهائى والدائم لشكل العلاقة السياسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

ثانيا : بناء نظام سياسى فلسطيني متكامل

يجب أن يكون لدى الفلسطينيين وفى أسرع وقت ممكن نظام سياسي ديمقراطى وشفاف يتمتع فيه المواطن الفلسطينى بكامل حقوقه المدنية والسياسية؛ وهذا يتأتى بإنهاء الانقسام وبناء بنية سياسية موحدة؛ ويجب أن يضاهى هذا النظام وبشكل عملى نظام الحكم فى إسرائيل؛ إن لم يضاهى أرقى أنظمة الحكم الديمقراطية فى هذا العالم. وقد يعتقد البعض أن هذا الكلام ضرب فى دروب الخيال إلا أن انجاز الفلسطينيين لنظام حكم ديمقراطى هو فى الحقيقة الهيكل الذى سيقوم عليه النموذج الفلسطينى القادر على مواجهة النموذج الاسرائيلى الذى أصمتت به الحركة الصهيونية آذان العالم تباهيا بنجاحه، ولكن قيام نظام فلسطيني من هذا القبيل يتطلب تغيير عميق فى الثقافة السياسية الفلسطينية السائدة فى الحياة السياسية الفلسطينية منذ عقود؛ ومن المؤكد أن تغيير بهذا الحجم فى الحياة السياسية سيكون مرحليا؛ إلا أن البدء فى إرساء أسس هذا النظام هو خطوة كبيرة فى الاتجاه الصحيح

ثالثا: التحرر الاقتصادى

وهو بمثابة ثلثى المسافة فى طريق التحرر السياسي؛ لذا يجب أن يتضمن الاتفاق الانتقالي بلورة هوية وشخصية اقتصادية فلسطينية بعيدا عن الاقتصاد الاسرائيلى، وأن يتحرر هذا الاقتصاد من الفيتو الاسرائيلى وعلى الفلسطينيين أن يحدثوا تحول اقتصاديا نحو الاقتصاد المنتج؛ والذى يتطلب من الفلسطينيين أن يمتلكوا أدوات الإنتاج، ويجب أن يكون لدى الفلسطينيين قطاع عام قوى ومنتج بالتوازى مع القطاع الخاص.

إن الهدف الاستراتيجى من إدارة الصراع هو تثبيت الوجود الديمغرافى الفلسطينى على الأرض عبر تثبيت الانسان الفلسطينى على أرض فلسطين التاريخية بكامل حقوقه المدنية كحد أدنى والتى كفلها له القانون الدولى، ونجاحنا ببقاء الانسان وضمان حقوقه المدنية هو فى الحقيقة أقصر الطرق لحصوله على حقوقه السياسية وللحفاظ على فلسطين الوطن.