«الديمقراطية» في أَصْلها الطبيعي!

جواد
حجم الخط


«الانتخاب (الاختيار، الانتقاء، الاصطفاء)» هو سنة الحياة، وناموس طبيعي، وقانون موضوعي يَفْعَل فعله في الطبيعة والمجتمع والتاريخ. 
نرى في الطبيعة، في عالم الحيوان والنبات، أنَّ الكائن الحي يتكاثر، فيقذف إلى الحياة (إلى البيئة الطبيعية التي فيها ومنها يعيش) بمواليد جُدُد (بالعشرات أو بالمئات أو بالآلاف..) من نوعه، فلا يبقى منها على قيد الحياة، وينمو، ويتكاثر، إلا القليل القليل.. إلا الذي تستصلحه (أي تعده أو تراه صالحا) البيئة.
بيئة الكائن الحي ليست بالثابتة الجامدة الساكنة؛ فهي في تبدِّل دائم مستمر؛ وينبغي للكائن الحي، الحيواني أو النباتي، إذا ما أراد البقاء، أن يكيِّف نفسه وفق التبدُّلات التي طرأت على بيئته، فإذا استطاع بقي، وإذا لم يستطع هلك. ينبغي له أن يملك من الصفات والخواص، ومن القوى والقدرات، ما يمكِّنه من أن يدرأ عن نفسه المخاطر التي تتهدد حياته.
بيئته تتبدل أوَّلاً، فيصبح مدعوَّاً إلى أن يتبدل هو أيضاً.. إلى أن يكيِّف نفسه بما يتلاءم وهذا التبدل البيئي؛ لكن هذا التكيف ليس هو الأصل والأساس في التطور في عالم الحيوان والنبات، فالأصل أو الأساس يكمن في «التكاثر»، وموقف البيئة من المواليد الجُدُد للكائن الحي. 
إنَّ هذا الكائن يزود البيئة (المتبدِّلة) بعشرات أو مئات أو آلاف.. المواليد الجُدُد من نوعه، التي، على وحدتها وتماثلها في «صفات النوع»، تتفاوت وتختلف في الصفات والخواص، وفي القوى والقدرات الفردية. 
هذه المواليد الجُدُد تقف أمام «البيئة المتبدِّلة (أو الجديدة)» كما يقف «المرشَّحون» أمام «الناخبين» في «انتخابات حرة ديمقراطية نزيهة»، فلا يفوز فيها (أي يبقى حيا وينمو ويتكاثر، مُورثا نسله الصفات الجديدة الجيدة) سوى الذي يملك، في ذاته، من الصفات والخواص والقوى والقدرات ما يؤهله للعيش والبقاء في هذه البيئة. وهكذا لا يبقى من ملايين المواليد الجُدُد سوى قليلها الجدير بالبقاء.. الذي يقع عليه اختيار الطبيعة، فيكون البقاء للأصلح وفق معايير ومقاييس البيئة الطبيعية.
وفي هذا الدرب الطويل الشَّاق من التطور تظهر الأنواع الجديدة من الكائنات الحية، التي بفضل فعل قانون «الانتخاب (أو الاصطفاء) الطبيعي» تكون أرقى من أسلافها.
وحده الإنسان استطاع أن ينأى بنفسه (بنوعه) عن تأثير هذا القانون الطبيعي الموضوعي؛ ولكن نأيا جزئياً محدوداً، فالإنسان، الذي انفصل عن المملكة الحيوانية بفضل «العمل»، صار، مثلا، يكيِّف نفسه وفق التبدل المناخي بثياب يصنعها، وبمنازل يبتنيها ويجهِّزها بأجهزة ضد الحر الشديد أو البرد القارس؛ ويكيفها وفق التبدل الغذائي بإنتاجه كل ما يحتاج إليه من الغذاء.
لولا «العمل» لبقي الإنسان خاضعا بالكامل لفعل وتأثير قانون «الانتخاب الطبيعي»، الذي من عواقبه، انقراض النوع الإنساني، أو ظهور أنواع جديدة منه.
الإنسان، الذي يتطور، مُذْ كان «العمل» و»المجتمع»، ليس «الإنسان الطبيعي»، أي النوع البشري، وإنما «الإنسان الاجتماعي»، أي النوع التاريخي. 
أمَّا «البيئة»، التي تختار وتَنْتَخِب، فليست «البيئة الطبيعية» وإنما «البيئة الاجتماعية (الاصطناعية، التاريخية)».
هذه البيئة الاجتماعية تتبدَّل في استمرار، وبفعل القوانين الموضوعية لتطورها؛ وينبغي للإنسان، في شكله ومحتواه التاريخيين، إذا ما أراد البقاء، أن يكيِّف نفسه بما يتلاءم والتبدُّلات، المختلفة الدائمة، في بيئته الاجتماعية التاريخية.
وهكذا ظهرت، مثلا، أنواع عديدة، عبر التاريخ، من الإنسان الفرنسي أو الروسي أو العربي.. أنواع تختلف في نمط الحياة، والصفات والخواص الاجتماعية، في الثقافة والطباع والسلوك.. فالفرنسي في فرنسا اليوم كان مستحيل الوجود في فرنسا قبل مئات أو آلاف السنين.. ونابليون بونابرت مستحيل الوجود في الأردن الآن. هذا هو «جوهر» الإنسان الذي يتبدَّل؛ إنه جوهره التاريخي لا الطبيعي البيولوجي.
القانون نفسه، قانون «الانتخاب الطبيعي» يفعل فعله، أيضاً، في ميدان عقائد البشر وأفكارهم؛ لكن فعله لا يكون حُرَّاً من القيود حيث تنعدم أو تتصحر الحياة الديمقراطية، أي حيث تقوم وتسود أنظمة الحكم الشمولي الاستبدادي، فهذه الأنظمة لا تبقى ولا تعيش إلا بإقامتها أسوارا عالية بين «البيئة الاجتماعية المتبدِّلة» وبين العقائد والأفكار، التي تكون في «أبراج مشيدة» لا تطالها يد «التغيير البيئي»، فيظل قديم الفكر على قدمه؛ أمَّا جديده فلا يعدو أن يكون ثوباً جديدا يلبسه القديم والبالي من الفكر، ليمثِّل على خشبة مسرح هذه الأنظمة دور «الفكر الجديد»، الذي، في الحقيقة، يكون قابعا في الزنازين والسجون، أو معلقا على أعواد المشانق!
«الانتخاب الفكري» يُجرى، على أيدي أنظمة الحكم الشمولي الاستبدادي، كما يُجرى «الانتخاب السياسي»، فمرشحه واحد أحد؛ أمَّا إذا تعدد هذا الواحد فلا يتعدد باللون؛ وإنما بدرجته أو كثافته.
و»الناخب» لا يكون «البيئة الاجتماعية الجديدة المتجدِّدة»؛ وإنما بيئة اجتماعية أكل عليها الدهر وشرب. إنَّه، كمثل مرشحه، من اللون نفسه، يُفرض على ملايين الناخبين أن يلوِّنوا إرادتهم وعقلهم وشعورهم به!
الفكر لن يتطور، أبدا، في مناخ هذه الأنظمة، التي تمعن في محاربة تأثير قانون «الانتخاب الطبيعي». 
هذا القانون يحتاج، قبل ومن أجل أن يفعل فعله التاريخي التقدمي التحديثي، إلى أن يُرفع عنه القيد التوتاليتاري الاستبدادي، فيقوم نظام حكم ديمقراطي، يُخْصب «التربة الفكرية» للمجتمع حتى تنبت وتنمو فيها «التعددية الفكرية». 
وهكذا تتمكن «البيئة الاجتماعية الجديدة المتجددة» من أن تختار، دائما وفي حرية تامة، ما يناسبها ويتفق معها من بين مرشحين فكريين كثر، فتأخذ بيد بعض العقائد والأفكار حتى تنمو وتسود وتنتصر، وتزج ببعضها، الذي تقادم عهده وانتفت الحاجة إليه، في غياهب الانقراض، فلا يبقى إلا «الأصلح» ولا يهلك سوى «الأطلح»!