أمام الدب الروسي والتنين الصيني.. هل يسير العالم نحو عصر ما بعد أمريكا؟

حجم الخط

بقلم: دورون فيلدمان * – إسرائيل اليوم 

 

على مدى مئات السنين كافح البشر في سبيل حريتهم وتحررهم من قيود أنظمة الحكم المطلق. ومع تفكك الاتحاد السوفياتي والانتقال إلى ما يعدّ عالماً من قطب أمريكي واحد، كان هناك من اعتقد، مثل فرنسي فوكوياما وجوزيف ني، بأن الديمقراطية الأمريكية – الغربية – الليبرالية أنهت المهمة الفكرية وستجرف الإنسانية بسرعة إلى مستقبل متفائل. مع حلول القرن الواحد والعشرين، يعيش قسم كبير من سكان العالم، بمقاييس الناتج للفرد، في مستوى معيشة عال في العالم. وإلى جانب الارتفاع في الثراء، تتطور التكنولوجيا وتترك أثرها على عموم أنماط الحياة. يزدهر العلم والطب ويسمحان بتمديد مدى العمر. والتعليم الأساسي والعالي متوفر لجماهير غفيرة ولم يعد محصوراً بالأقلية. ولكن رغم التقدم الذي يبدو ملموساً حتى في المناطق النامية، يشعر المجتمع الغربي بأنه أضاع الطريق، ووصل إلى مفترق طرق.

تساهم في هذا الإحساس خلافات أيديولوجية – ثقافية واقتصادية – اجتماعية حادة، يدور في الولايات المتحدة بين الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري، بين الليبراليين والمحافظين، على روح أمريكا. صراع الجبابرة هذا تعاظم بقوة أكبر في ضوء المناوشات بين الرئيس ترامب والحكام الديمقراطيين حول إدارة أزمة كورونا، ومقتل جورج فلويد وموجة الاحتجاج التي ثارت في أعقابه.

ليست هذه حرباً ثقافية أخرى. فالانقسام بين “أمريكا الليبرالية” وأمريكا “المحافظة” ينبغي أن يرى كـ “حرب أهلية مكبوتة”، معناها صراع أيديولوجي لا هوادة فيه على الهيمنة في المجتمع الأمريكي، دون استخدام للسلاح. هذه السياقات الداخلية شديدة القوة لا تهز المجتمع الأمريكي وحسب، بل وبقدر كبير تضعضع أيضاً قدرة الولايات المتحدة الأخلاقية على قيادة العالم الغربي بالروح الديمقراطية الليبرالية.

لقد كان للقوة العظمى في العالم في القرن الأخير دور حاسم في توجيه السفينة البشرية إلى مواقع أفضل. فقد وقفت زعيمة العالم الحر، رغم عيوبها، في وجه أنظمة فاشية – ديمقراطية، جندت مقدراتها لمكافحتها، ودفعت إلى الأمام بالتحول الديمقراطي للدول، وأدخلت إلى العالم الرأسمالية الاقتصادية الحديثة ،كما أدخلت الثقافة والقيم الأمريكية. لا تزال الولايات المتحدة اليوم القوة العظمى الاقتصادية – العسكرية الأكبر في العالم. ولكن التهديد الذي يقف أمامه المجتمع الغربي يتعاظم، في ضوء نشوء ميزان قوى جديد، لم تعد فيه الولايات المتحدة المهيمن الحصري بل تضطر إلى تقاسم قوتها مع قوى عظمى منافسة.

تعمل روسيا والصين على تحدي العالم المؤيد للغرب الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية. لشدة خيبة الأمل، رغم تبني مبادئ الرأسمالية، شددتا جهازهما القمعي الوحشي، وخلقتا أزمات دولية – إقليمية في العالم، في ظل ترويج لسياسة اقتصادية دولية غير نزيهة وعديمة الشفافية، تضعضع علاقات الثقة مع شركائهما في العالم. وبالتوازي مع قمع حريات الفرد، يسعى الدب الروسي والتنين الصيني على خلق نظام اقتصادي بديل.

على نحو يشبه هامش القوى الذي بدأ يتغير في أواخر القرن التاسع عشر حين ضعفت بالتدريج مكانة الإمبراطورية البريطانية، طليعة الاقتصاد الحر، في صالح القوى الصاعدة –ألمانيا، واليابان والولايات المتحدة– هكذا تعمل روسيا والصين على إضعاف المنظومة الرأسمالية الغربية – الأمريكية ومكانة الدولار. تعبر هذه الأعمال الإصلاحية عن نفسها مثلاً في الدفع إلى الأمام بخطة “طريق الحرير الجديد” للصين، التي وضعت لنفسها هدفاً في توسيع النفوذ العالمي للصين، وزيادة قوتها في العالم الثالث، وتحدي السيطرة الأمريكية.

غير أن هذه ليست المرة الأولى التي تصعد فيها قوة عالمية وتتحدى مكانة قوة أخرى، سيكون هناك من يدعي بأنه رغم مساوئ النظام في الصين، يحتمل أن يكون بديله السلطوي – الاقتصادي ينطوي على فضائل مقارنة بالخيار الغربي. غير أن هذا الميل ينبغي أن يشعل أضواء تحذير في الغرب، إذ يتعين عليه في المستقبل غير البعيد أن يقف أمام معضلة حقيقية حول قيمه وصورة الحياة التي يرغب فيها. فالعاصفة الاجتماعية التي تجري في الولايات المتحدة تهدد بالمس بمكانتها وتعرض قدرتها على الوقوف عند قيمها التي قادتها وقادت الغرب. ودون صلة بنتائج الانتخابات الرئاسية فإن المصلحة الأمريكية والغربية واضحة بجلاء. كلما انجرت الولايات المتحدة إلى الخلافات والتوترات الداخلية على المفعول الأخلاقي لقيمها التأسيسية، سوف تتضرر قدرة العالم العربي على الوقوف في الثغرة وتحقيق قيم الحرية والتحرر التي زرعت في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

د. في كلية العلوم السياسية والحكم والعلاقات الدولية في جامعة تل أبيب