ماتت الصهيونية في 15 أيار 1948

UriAvnery
حجم الخط


بقلم: أوري أفنيري* 

في بدايات الخمسينيات نشرت مجلة «هعولام هزيه» قصة صديقي ميكو ألماز. في تلك الفترة، كانت دولة إسرائيل الجديدة في حالة عسيرة جدا. لم يعرف زعماؤها كيف يسدّدون قيمة واردات الغذاء في الشهر القادم.
تذكّر أحدهم جالية يهودية صغيرة في ركن ناء من إفريقيا، كان أعضاؤها مالكين لمناجم الماس في المنطقة. كانوا أثرياء بشكل خرافي. اختارت الحكومة الإسرائيلية مُجنِّد تبرّعات موهوبا وأرسلته إلى هناك.
فهم الرجل أن مصير البلاد ملقى على كتفيه. جمع اليهود المحليّين وخطب فيهم خطابا متميّزا. تحدث عن الروّاد الذين تخلوا عن كل شيء، هاجروا إلى البلاد وجعلوا الصحراء تزهر. تحدث عن العمل المضني والجوع، وعن مثلهم العليا الاشتراكية.
عندما انتهى، لم تبقَ هناك عين جافّة في الغرفة. عندما عاد الرجل للفندق، علم أنّ هذا كان خطاب حياته.
وفعلا، في اليوم التالي طرق بابه وفد من اليهود المحليّين. «إن كلامك جعلنا ندرك أن حياتنا حقيرة ودون مضمون، حياة متعة واستغلال»، كما قالوا. «قررنا بالإجماع أن نمنح مناجمنا كهدية للعمال، أن نتنازل عن كل شيء وأن نهاجر معك إلى البلاد، من أجل أن نحيا روّادا».
كان ديفيد بن غوريون صهيونيا حقيقيا. لقد آمن أن الصهيوني هو اليهودي الذي يذهب للعيش في «أرض إسرائيل». بنظره، حتى رئيس الهستدروت الصهيونية العالمية لم يكن صهيونيا حقيقيا، إذا استمر في العيش بنيويورك. تمسّك بن غوريون بمعتقده هذا بكل قوته.
في ليلة سفره الأول إلى الولايات المتحدة كرئيس لحكومة إسرائيل، سأله مستشاروه ماذا ستكون بشراه لليهود هناك. «سأقول لهم اتركوا كل شيء وهاجروا إلى البلاد»! أجاب بحزم.
فزع المستشارون. «ولكننا بحاجة إلى أموالهم»! صاحوا. «لا يمكننا الاستغناء عنها»!
تبع ذلك صراع ضمير. وفي النهاية خضع بن غوريون. لم يكن هناك مناص. سافر إلى الولايات المتحدة وقال لليهود هناك إنهم سيكونون صهاينة جيدين إذا تبرّعوا بشكل سخي لإسرائيل وقدّموا لها دعما سياسيا.
وبعد هذه القضية لم يعد بن غوريون الشخص ذاته. تقوّضت أسس معتقداته.
الأمر ذاته حصل للصهيونية. فقد أصبحت شعارا ساخرا، استخدمه كل شخص لحاجاته. أصبحت الصهيونية بشكل أساسيّ أداة في يد القيادة الإسرائيلية من أجل استعباد يهود العالم وتجنيدهم لأهدافها الوطنية، الحزبية والشخصية.
نعود إلى القصة: إذا ترك يهود العالم غدا كل شيء وهاجروا إلى البلاد ستكون تلك كارثة لا مثيل لها. القوة الهائلة لليهودية المنظّمة، والتي بمعظمها تتلقى الأوامر من إسرائيل، أمر ضروري لوجود الدولة.
فكرتُ بكل ذلك عندما قرأت في نهاية الأسبوع الموضوع المثير للتفكير لـ أ.ب يهوشع. في نصّه هذا يفرّق يهوشع بين القومية والصهيونية. حسب رؤيته، فإنّ المصطلحين لم «ينصهرا» ولم يصبحا شيئا واحدا، وإنما في الغالب تم «دمجهما» مع بعضهما. موقع الصهيونية في هذا التعايش الإشكالي غير واضح.
في إسرائيل اليوم، هذه نظرية جريئة، نظرية تقترب من الكفر. في روما القديمة كانوا يحرقون البشر بسبب خطايا صغيرة أكثر. هذا مثل أن يقال إنّ الله وسبحانه وتعالى هما إلهان مختلفان. ولكن، بحسب رأيي، إنه مبنى فكري مركّب من مصطلحات قديمة. يسمح في أيامنا أن نبتعد بأفكارنا وأن نبحر إلى مسافات أكثر جرأة بكثير. هل القومية الإسرائيلية هي فعلا «مدمجة» بالصهيونية غير الإسرائيلية؟
علي أن أذكّر القارئ مجدّدا بأنّه في البداية لم تكن هناك أية علاقة بين الفكرة الكبيرة لبنيامين زئيف هرتسل وبين «صهيون»، بالمعنى اللفظي للاسم.
في المرحلة الأصلية أراد هرتسل إقامة «دولة اليهود» (وليس «دولة يهودية») في باتاغونيا، وهو إقليم في جنوب الأرجنتين. قبل مدة قصيرة من ذلك تمت إبادة السكان المحليّين هناك، وظنّ هرتسل بأنّ هذه المنطقة الفارغة ملائمة لاستيطان جموع اليهود من أوروبا، بعد أن يتم طرد ما تبقى من السكان المحليّين أيضًا (ولكن فقط بعد أن يقتلوا جميع الحيوانات السيئة).
عندما تواصل هرتسل - وهو يهودي من فيينا فاقد لهويته الثقافية تماما - مع اليهود الحقيقيين، وخصوصا الروس، اضطر إلى الاعتراف بحقيقة أنّه لا مكان سوى فلسطين قائم بالحسبان.
لم يحب «أرض إسرائيل» ولم يزرها أبدا، سوى مرة واحدة ووحيدة، عندما قرر القيصر الألماني، وهو شخص رومانسي جدا، الالتقاء معه عند أبواب القدس فقط. (قال القيصر المعادي للسامية في وقت لاحق إن الصهيونية فكرة كبيرة، «ولكن لا يمكن تنفيذها مع اليهود)».
كانت فكرة هرتسل الصهيونية بسيطة للغاية: يأتي كل يهود العالم إلى الدولة الجديدة، ومنذ تلك اللحظة فقد يسمّون يهودا. اليهود الذين سيظلّون في أماكنهم في جميع أنحاء العالم لن يعودوا يهودا، وسيكونون في النهاية مجرد نمساويين، ألمان، أميركيين وهكذا. نهاية القصة.
حسنا، لم يحدث ذلك. كانت الصهيونية جهازا مريحا جدّا للسياسيين من أن يُلقوا بها في سلّة القمامة.
يستخدم الجميع الصهيونية. السياسيون الأميركيون الذين يطمعون بالمال الكثير من المتبرّعين اليهود. السياسيون الإسرائيليون الذين ليس لديهم أي شيء آخر ليقولونه. المسؤولون الإسرائيليون من جميع الأنواع والذين يميّزون علنًا ضدّ المواطنين العرب في البلاد. أعضاء الكنيست من الائتلاف ضدّ المعارضة. أعضاء الكنيست من المعارضة ضدّ الحكومة.
لو افترضنا أن بنيامين نتنياهو سيدعو يتسحاق هرتسوغ، زعيم المعارضة، «معاديا للصهيونية»، سيقفز الأخير من مكانه كما لو لدغته أفعى. سيكون أقل أهمية لو دعاه «خائنا». ولكن «معاديا للصهيونية» هذا أمر فظيع. لا يمكن احتماله.
ومع ذلك، لو سُئل أحد ما من جميع هؤلاء من هو الصهيوني في الواقع، لتوقف وبدأ بالتلعثم: «الصهيوني؟ ماذا يعني ذلك، كل شخص يعلم ماذا يعني الصهيوني! الصهيوني هو.. إيه... إيه... إيه...
لدى أعداء إسرائيل الأمر مشابه. يتّهم كل واحد الآخر بالصهيونية. هل أنت مع حلّ الدولتين؟ إنها مؤامرة صهيونية خبيثة! أنت لا تريد أن تختفي إسرائيل من على وجه الأرض؟ فأنت إذن جزء من المؤامرة الصهيونية العالمية.
أن تدعو أحدا ما بـ «الصهيوني» فهذا نهاية الجدال. كما لو قلت له إنه نازي. فقط أكثر سوءًا.
وهناك أيضًا بقايا معاداة السامية التقليدية. بقايا ما تبقى من الحركة التي كانت كبيرة وفخورة في يوم ما، تلك التي تسببت بكل هذه المشكلة من البداية. نفس الأشخاص الذين التقى بهم هرتسل في الشارع بفيينا وباريس، عندما وصل إلى نتيجة منطقية أنّ اليهود لا يمكنهم بعد أن يعيشوا في أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر.
اختفت الحركة الكبيرة المعادية للسامية. نجت فقط بقايا هزيلة. بالكاد تكفي من أجل تزويد الصهاينة بالوقود.
وقد ماتت الصهيونية نفسها، الحقيقية، بكرامة في تل أبيب في 15 أيار 1948، في اللحظة التي قامت فيها دولة إسرائيل.
(في تلك الفترة أصبحت كلمة «صهيونية» نوع من النكات في أوساط الشباب. «لا تتحدث الصهيونية»! كان معناها «لا تتحدث بكلمات مضخمة»!).
ما تبقى هو التعايش بين كيانين منفصلين، ليسا «مدمجين» تماما مع بعضهما، والعلاقة بينهما قد تنقطع في المستقبل.
لا يوجد للكيان الإسرائيلي ولا لليهودية العالمية أية علاقة جوهرية مع الصهيونية.
هناك الكيان الإسرائيلي: وهو أمة عادية (على الأقل كما أنّ الأمم الأخرى هي «عادية»). لديها وطن، إطار نفسي مشترك، واقع جغرافي وسياسي، مصالح اقتصادية، لغة لمعظم مواطنيها، مشاكل داخلية لا تنتهي. 75% من المواطنين يهود، 20% من العرب (5% هم من اليهود غير المعترف بهم كيهود من قبل الحاخامات الذين يحدّدون عندنا لأمر ما أشياء كهذه).
وهناك اليهودية العالمية. موطنها هو العالم كله. إنها تنتمي للكثير من الأمم المختلفة. ولديها عدة مصالح غامضة مشتركة (ثمرة عمل المعادين للسامية). لديها دين والكثير من التقاليد. لدى جزء كبير منها هناك التزام تجاه إسرائيل، وهو التزام غامض قد يصبح أكثر غموضا.
أحد الأدوار الرئيسة لـ «الصهيونية» في أيامنا هو الاحتفاظ بيهود العالم مستعبدين تماما للقيادة الإسرائيلية. دون هذه العلاقة كانت دولة إسرائيل ستضطر إلى العيش على الموارد السياسية، الاقتصادية والعسكرية الذاتية، وهي وجود أصغر بكثير.
العلاقات التي تمسك بهذين الكيانين معًا (أو «الملتحمين» ببعضهما ، كما قال أ. ب. يهوشع) هي الدين والتقاليد. في هذه الأيام، عندما يحتفل اليهود في كل العالم بالأعياد، يبرز ذلك جدا. العلاقات موجودة وقائمة على مدى مئات السنين، ولكن يمكن أن نتساءل ما هي قوتها الحقيقية في أيامنا. بماذا هي أكثر قوة من سائر العلاقات، كما يقال، بين الإيرلنديين الأميركيين وإيرلندا، أو بين الصينيين في سنغافورة والصين؟ في الاختبار الحقيقي ومع مرور الوقت، كيف سيمكنها الصمود؟
ومن المفارقات أن الفصيل المتديّن الأكثر تطرّفا تحديدا، في القدس وبروكلين، يرفض الصهيونية ويعتبرها خطيئة ضدّ الله سبحانه وتعالى.
الضرر الحقيقي الذي حدث من خلال سيطرة الصهيونية على عقلية إسرائيل كامن في تشويه مكانة الدولة في العالم.
التعريف الرسمي لإسرائيل كـ «دولة يهودية وديمقراطية» هو إرداف خلفي - أي مصطلح يناقض نفسه. لا يمكن للدولة اليهودية أن تكون ديمقراطية حقّا، لأنّ حقيقة تعريفها تتنافى مع المساواة بين المواطنين من غير اليهود، وخصوصا العرب. لنفس السبب، لا يمكن للدولة الديمقراطية أن تكون يهودية. يجب أن تكون منتمية لجميع المواطنين.
ولكن المشكلة أعمق. العلاقة بين إسرائيل ويهود العالم قوية إلى أبعد مدى بالمقارنة مع علاقة إسرائيل مع جيرانها. لا يمكن أن يكون نظر الإنسان مقصورا على نيو يورك وفي نفس الوقت أن يكون مهتما بما يحدث في بغداد، دمشق وطهران.
حتى أن دمشق وطهران قد اقتربتا منا إلى درجة كبيرة بحيث لم يعد بالإمكان تجاهلهما. ومن المفارقات، أن الجموع في طهران تصرخ «الموت للكيان الصهيوني»! على المدى البعيد، ما يحدث هناك أهم لمستقبلنا بكثير من مؤتمر الحزب الجمهوري في سان فرانسيسكو.
فليكن واضحا: لا أدعو إلى الفصل، كما دعت مرة المجموعة الصغيرة التي حظيت باسم «الكنعانيين». ستبقى العلاقات الطبيعية بين إسرائيل ويهود العالم، العلاقات التي هي حقيقية ولا تضر بمصالح كل طرف من الطرفين.
بشرط واحد: ألا تضر بمستقبل إسرائيل، المستقبل الذي يُلزم بالسلام والصداقة بين مواطني إسرائيل وبعضهم البعض وبينهم وبين جيرانهم، ومن جهة أخرى لا تضرّ بمستقبل اليهود في العالم أمام شعوبهم.
كيف يتلاءم ذلك مع المذهب الصهيوني؟ لا أعلم. وأيضا لا يهمّني حقّا.

*رئيس «كتلة السلام» وعضو كنيست أسبق.