من فجّر بيروت؟

حجم الخط

بقلم حافظ البرغوثي

 

لا أدري لماذا خطرت على الذهن قصيدة الشاعر الأمريكي من أصل إفريقي أمير بركة عندما كنت أشاهد مقاطع من انفجار بيروت المأساوي. القصيدة بعنوان «أحد ما فجر أمريكا»، وظل الشاعر في قصيدته يتساءل من هو الذي فجر أمريكا ذاكراً مختلف الشرائح في النظام الأمريكي من الحكام إلى الرأسمالية المتوحشة إلى تجار النفط وأصحاب الصحف ومصاصي الدماء، والقتلة وباعة العبيد، وأصحاب بيوت المال والعقارات، والباحثين عن النفط الأحفوري دون سبب طالما أن الشمس مصدر الطاقة لن تذهب إلى أي مكان.

الشاعر عرّج على اليهود و«الإسرائيليين» الخمسة الذين ضبطوا يصورون البرجين ويرقصون واحتجزوا وسفروا في الليلة نفسها وكأن شيئاً لم يكن. وهنا تمت معاقبة الشاعر بسحب جائزة أدبية كان حصل عليها.

في حالة بيروت تساءل الكل عمن فجرها بهذه الطريقة المتوحشة! ومن له مصلحة! فنظرية المؤامرة تبقى مطروحة، لكن ستبقى التساؤلات بلا إجابة لمدة طويلة، فهناك ألغاز كثيرة في الحياة اللبنانية ظلت بلا إجابات، انقلابات واغتيالات وتفاهمات وصفقات لكن يبقى النظام هو المتهم، لأنه يضم في داخله قتلة وفاسدين وأنانيين واحتكاريين وسماسرة وعملاء. وسواء كان الإهمال أو التآمر فإن النظام اللبناني بأطيافه التي تتحاصص المال العام والمناصب والمكاسب والسرقات وتهيمن على الحياة اللبنانية وتتاجر في كل شيء وتبيع كل شيء ينتج أرصدة قابلة للقسمة في ما بينها هي المتهمة. قد تكون شحنة نترات الأمونيوم هي السبب، لكن من كدسها هناك دون رقابة لسنوات هو الذي سهل تفجيرها.

من فجر الميناء هو الذي أشعل الحرب اللبنانية منذ السبعينات للقضاء على النموذج اللبناني في التعايش والتنمية وكبح جماح البؤرة المضيئة في بحر الظلمات العربي. وهو الذي فجر جرثومة الطائفية لتنتشر عدواها خارج لبنان، وهو الذي أراد إقامة دويلات طائفية تابعة لقوى خارجية إقليمية ودولية. من فجر الميناء هم الذين أنقذهم فيروس كورونا من غضبة الشعب الذي ظل يتظاهر لفترة طويلة مطالباً بمكافحة الفساد والفاسدين وإنهاء المحاصصة الطائفية التي شرعنت الفساد ونهبت المال العام.

ومع ظهور الفيروس تلاشت التظاهرات وتنفس الفاسدون الصعداء وهربوا أموالهم إلى الخارج. من فجر الميناء هم المتمترسون في كراسي الحكم وديمومة الطائفية، فسياسيو اليوم هم من شاركوا في الحرب الأهلية وحولوا ميليشياتهم إلى أحزاب سياسية بعد انتهائها، ثم تولوا مناصب حكومية واشتروا أسهماً في البنوك. وأثرت النخبة على حساب الفقراء وتم وضع أساسات الانهيار الحالي. من فجر الميناء هم مروجو الربيع العربي والقتل والنهب والسحل.

الغلاء دمر الكرامة اللبنانية، ولو كانت هناك منافذ للهجرة لسارع أكثرية اللبنانيين إلى الفرار بحثاً عن لقمة العيش، فالليرة تراجعت قيمتها بشكل كبير وحبست البنوك ودائع المواطنين لكنها تركت مليارات الكبار تُهرَّب إلى المصارف الخارجية واختلفت المالية مع المصارف أمام البنك الدولي حول القروض المطلوبة وكيفية تسديدها. فسوء الإدارة الاقتصادية والفساد والإنفاق الزائد على مدار عقود، بددت الآمال في الإصلاح والتعافي، لأن النخبة الحاكمة تعيق أي شكل من أشكال الإصلاح وأي تدقيق خارجي يساعد في فتح المساعدات الخارجية.

ويلجأ الناس الذين أصابهم الفقر حديثاً إلى وسائل التواصل الاجتماعي للإعلان عن بيع بعض أدوات وأثاث منازلهم مقابل الحليب، وتزداد الجريمة. وفي فيديو تم تداوله على نطاق واسع يدخل رجل إلى صيدلية وهو يلبس كمامة ويرفع مسدساً طالباً من صاحب الصيدلية حفاضات أطفال. الآن يدخل اللبنانيون كلهم الصيدلية العربية حاملين أكفانهم طالبين حفاضات لحفظ لبنان من الفوضى والانهيار، فما يتجاهله الكثيرون أن بداية الانهيار العربي الحالي كانت فعلاً مع حصار بيروت سنة 1982 ووقتها قلت كشاعر «بيروت جيئي إلى كل العواصم واجلبي معك الحصار». وعم الدمار والحصار لاحقاً أركان العواصم حتى تاريخه، فإن انهار لبنان سينهار غيره، والمتربصون كثر.