بين هيروشيما وبيروت

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد الغني سلامة

من حيث الميقات، تَصادَف انفجار بيروت في تاريخ يتوسط انفجاري هيروشيما وناغازاكي (4، 9 آب 1945). أما من حيث الشدة وشكل الانفجار، فجاءت مقاربة لانفجار هيروشيما، وتلك من مصادفات القدر، فهل ستكون نتائج تفجيرات بيروت مشابهة لنتائج القنابل الذرية التي ألقيت على اليابان؟
تلك الهزة العنيفة التي تعرض لها اليابان خلقت مجتمعاً ودولة ونظاماً سياسياً جديداً ومختلفاً كلياً، وقد استخلص اليابانيون العبرة، وحولوا مأساتهم إلى فرصة للتقدم، فهل سيستخلص اللبنانيون العبرة من الانفجار؟ وهل سيكون بمقدورهم تحويل هذه المأساة إلى فرصة كما فعل اليابانيون؟
قبل عدة سنوات، زرتُ مدينة «هيروشيما»، وحضرتُ الاحتفال السنوي الذي تقيمه الدولة إكراماً لذكرى ضحايا القنبلة الذرية، وبعد الاستماع لكلمات المتحدثين الرسميين، دخلنا «متحف هيروشيما لذكرى السلام»، الذي يجسد المأساة الأبشع في تاريخ البشرية، وما أن دخلنا بوابة المتحف حتى أعطوا لكل زائر مسجلاً وسماعة أذن، يحملهما ويجوب أركان المتحف وفق ترتيب معين، فيستمع باللغة التي يختارها إلى شرح مفصل عن ذلك اليوم المشؤوم من تاريخ اليابان.
لفت نظري مجموعة من الصور المثيرة، أولها وأهمها ربما صورة لشرطي ياباني يرتدي الزي الرسمي ويمسك بيده قلماً وورقة، وهي الصورة الوحيدة التي التقطت في ذلك اليوم الملتهب، حيث لم يجرؤ أي صحافي على الاقتراب من المحرقة، ومن كانوا هناك احترقوا مع صورهم، ولعل ذلك الشرطي كان يدون أسماء وأرقام الضحايا أو حجم الخسائر، ما يعني أنه على الرغم من كل شيء كان يقوم بواجبه. الصورة الثانية، التقطت في اليوم الثاني، وكانت لجموع غفيرة من المواطنين هبّت لمساعدة الضحايا، على الرغم أن الإشعاعات النووية كانت تلوث المنطقة بدرجة تكاد تكون مميتة، حتى أن ما تبقى من سلطات طلبت منهم الرحيل بعيداً حتى لا تزيد أعداد الضحايا.
الصورة الثالثة، كانت لِـ»ساعة يد» شبه مهشمة، وقد توقفت تماماً عند الساعة الثامنة والربع صباحاً، وهي اللحظة التي سقطت فيها القنبلة على المدينة، وصورة أخرى لمجموعة مواطنين يقفون بالطابور أمام بوابة البنك القريب من موقع الانفجار، قبل ربع ساعة من موعد افتتاح البنك، وقد تفحم هؤلاء جميعاً، بنفس الهيئة التي كانوا يقفون بها. وصور أخرى لمواطنين رموا أنفسهم في النهر ليتجنبوا حرارة الانفجار، فوجدوا مياه النهر تغلي تقريباً.
أحد المواطنين ويدعى «ياماجوتشي» شهد انفجار «هيروشيما» ونجا منه بأعجوبة، فقرر العودة لأهله في «ناغازاكي»، وما أن دخل مدينته حتى شهد انفجاراً ذرياً ثانياً، والغريب أنه نجا منه أيضاً! هل هو الأكثر حظاً أم الأكثر نحساً؟ لا أحد يعرف، المهم أن ضربة «ناغازاكي» لم تكن ضرورية من الناحية العسكرية؛ فقد كانت فقط لأغراض «البحث العلمي»، أي لدراسة أثر نوع آخر من القنابل الذرية على المدن والسكان (الإجرام الأميركي بامتياز).
رغم الدمار الهائل ومرارة الهزيمة، إلا أن اليابانيين قرروا الانحياز للحياة، ولكن بأسلوب جديد ومختلف؛ فقد صدمهم مشهد الإمبراطور (الإله) وهو يوقع صك الاستسلام، وصدمهم حجم الخراب الذي خلفته سياساتهم الإمبريالية، وبدلاً من الدعوة للثأر والانتقام البدائي، تغلبوا على العذاب واليأس وتمسكوا بإنسانيتهم، فنشأ تيار شعبي يسمى «الهيباكوشا»، (وهم من تعرضوا للهجوم الذري في هيروشيما وناغازاكي ونجوا منه) أخذ ينادي هؤلاء بضرورة نزع السلاح النووي من كل العالم، بل إن هؤلاء «الهيباكوشا» هم من نادوا بتطبيق النظرة الجديدة للعالم التي ميزت الجيل الجديد من اليابانيين، والتي نُقشت على النصب التذكاري لضحايا القنابل الذرية، والمنصوص عليها في الدستور الياباني، والتي تدعو لاستخلاص العبر من أخطاء اليابان الإمبريالية، ثم الاتعاظ من خطايا الحروب التي جرت في مختلف أنحاء العالم، ثم بناء صرح السلام العالمي القائم على العدل والمساواة والثقة والتعاون بين الشعوب ونبذ العنف والكراهية والعنصرية.
نحن سكان الأرض علينا أن نتذكر إسهامات «الهيباكوشا»، وأن تفيض قلوبنا بالامتنان والتقدير لهم، لأنهم فقدوا أحباءهم وذويهم وخسروا صحتهم، ومع ذلك ظلوا مفعمين بالحياة، ويحدوهم الأمل بغد مشرق لا يعرف الحروب.
ليس هذا الدرس الوحيد الذي علمتنا إياه اليابان، فعندما كانت الدولة منهارة، والحكومة منحلة والجيش مهزوم، عقب الانفجار النووي 1945، لم تحدث آنذاك أي أعمال فوضى، بل على العكس تداعى الأهالي لمساعدة بعضهم!! يتكرر الأمر مرة ثانية في آذار 2011 عندما ضرب زلزال عنيف الشاطئ الشرقي الياباني – هو الأقوى من نوعه في تاريخ الأرض الحديث – ونجم عنه موجات تسونامي مدمرة تسببت بمقتل آلاف الضحايا وتشريد مئات الآلاف، نجم عنه تسرب إشعاعات نووية من مفاعل «فوكوشيما» الذري، ورغم ذلك تصرف المواطنون بمنتهى التحضر، فلم نرَ مشاهد النواح واللطم، بل رأينا حزناً إنسانياً سما على كل المشاعر والغرائز الأخرى، ورأينا طوابير المواطنين المنتظمة وهي تأخذ حاجتها فقط من المياه والطعام، دون أن يصرخ أحد على الآخر أو يعتدي عليه، ولم يشتر أحد أكثر من حاجته، لم يمارس التجار عادتهم المعهودة باستغلال الوضع ورفع الأسعار، المطاعم خفضت أسعارها. أجهزة الصرف الآلي لم يحطمها أحد، لم تسجل حوادث سلب وسطو على المحلات، لم ينتهز الإعلاميون الظرف بخلق حالة رعب، لم يظهر مذيعون مهرجون، فقط تقارير مهنية هادئة وصادقة، لم تحدث حالة فوضى وتدافع، خمسون عاملاً ضحوا بأنفسهم وظلوا داخل المفاعل النووي في محاولة لإصلاحه حتى لا تتفاقم مخاطر الإشعاعات، الكل عرف ماذا يفعل بالضبط، باختصار.. أظهر اليابانيون تحكماً رائعاً ومدهشاً بكل شيء.
خلاصة القول، اليابانيون تجاوزا الهزيمة، وشيدوا دولة حديثة بعد أن اعترفوا بأخطائهم، وأقروا أنهم كانوا دولة إمبريالية، يحكمها نظام شمولي بعقلية كولونيالية.. الألمان أيضاً، اعترفوا بخطئهم الجسيم حينما سلموا أنفسهم لحزب نازي، وانتخبوا ديكتاتوراً، وأسسوا نظاماً استبدادياً.. كل دول أوروبا الحديثة جربت النظم الشمولية والحكم المطلق، وعرفت مساوئ ذلك، وعالجته بالديمقراطية والتخلص من كل أفكار العنصرية وأسباب الفساد..
اللبنانيون من أذكى شعوب المنطقة وأكثرهم تعلماً، وهم يدركون أن أساس مصيبتهم وأسباب الفساد الذي دمر بلدهم يكمن في نظام المحاصصة الطائفي، وفي العقلية الطائفية.. ومن هنا ستكون نقطة انطلاقتهم وانعتاقهم وتحررهم من منظومة الفساد.