الفوضويون يقودون الثورات … تظاهرات سوسيولوجية وليست تظاهرات حزبية​​​​​​​

حجم الخط

بقلم د. ناصر اللحام

 

  مع بداية صيف 2020 بدأت هذه الظاهرة في الولايات المتحدة الأمريكية. واعتقد الجميع أن الحزب الديمقراطي الأمريكي المعارض لترامب هو الذي يقود هذه التظاهرات ويحطّم تماثيل العبودية. ثم اتضح أن من يقود هذه التظاهرات بكفاءة وقوة وزخم وتواصل هم الحركة الفوضوية (أنركيا) والتي تتكون من شبان غاضبين على النظام العالمي، ورافضين للنظامين الاقتصادي والاجتماعي الذي يحكم البشرية. وان هؤلاء مجموعات أيديولوجية لا تعترف بالطبقة ولا تعترف بالحزب ولا تعترف بالحكومات ولا بمنطقة جغرافية محددة ، وإنما يحاربون ظلم النظام أينما كان ومهما كانت سطوته وقوته .

ورويدا رويدا، انطلقت تظاهرات مشابهة في إسرائيل ، وتماما كما هو في المجتمع الأمريكي ، اتضح أن أحزاب المعارضة الكلاسيكية لا تقودها ولا تدري عنها . بل إن مجموعة (الرايات السوداء) هي التي تقود التظاهرات في إسرائيل منذ سبعة أسابيع دون توقف .

الانركيا او الانرخيا أو الانارخيستيا ، هي الفوضوية بعينها . وهي الوريث الشرعي لأفكار الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر ، مؤسس الفكر الوجودي في التاريخ المعاصر .

سارتر الذي اعتمد نظريات فوضوية في كتاباته وفكره ضد أفكار الكنيسة ، وضد أفكار ديغول الاستعمارية. انسجم مع الفيلسوفة “لاسيمون دي بوفوار ” وترك بصمة واضحة في فكر الفوضويين الجدد.

إذا .. الوجودية خلقت الفوضوية. ولكن الفوضوية خلقت العبثية التي هي في مستوى فلسفي أعلى بكثير من الفوضوية.

ويمكن القول أن الفوضويين هي تلاميذ العبثيين، وان الفلاسفة الذين يقودون الحركة الفوضوية، هم النواة القوية لفكر الفوضوية الجديدة التي تحتل العالم.

ذات يوم قال سارتر في الستينيات من القرن الماضي (افعل ما يجعلك تشعر بالسعادة بشرط أن لا تؤذي الآخرين). وهو رأى أن الحكومات كلها سخيفة لأنها تفعل كل شيء لا يجلب السعادة وتفعل كل شيء يؤذي الآخرين .

ولا أتردد في القول ان تظاهرات الحركة الطلابية التي انتشرت في نهاية الستينيات في فرنسا وأمريكا وفي القاهرة وعواصم العالم , كانت استجابة مباشرة لفكر سارتر الوجودي. وبالفعل فقد زار سارتر القاهرة وكان معجبا بجمال عبد الناصر. وزار كوبا والتقى فيدل كاسترو و تشي جيفارا وكان معجبا بهما. وزار تل أبيب وظلّ حائرا في تجربتها ولم يكتب عنها شيئا واضحا .

تظاهرات الحركة الطلابية في الجامعات أواخر الستينيات كانت ثورة على الحكومات وعلى الفكر الاستعماري. وكانت صرخة كبيرة أن الأجيال الجديدة لا تريد ان تدفع فواتير الحرب العالمية الثانية .

وتظاهرات اليوم من الانريكا “الفوضويين” هي ذات الصرخة وان الأجيال الجديدة ترفض ان تدفع فواتير الآباء والأجداد.. وهي ترفض بالمطلق أن تقبل “غباء” الحكومات التي تريد أن تقهر الشعوب لمجرد أنها تعيش الأفكار القديمة.

الفوضويون وغالبيتهم من المثقفين ومن خريجي الجامعات . يؤيدون حركة مقاطعة إسرائيل بالمطلق ويرفضون الاستيطان والاحتلال ، كما يتعاطفون مع المثليين الجنسيين ، ويصطفون إلى جانب الضعفاء والفقراء والمنبوذين .

الفوضويون يختلفون عن الاشتراكيين في المبدأ فهم لا يعترفون بالطبقة . ولا ينظرون الى المجتمعات كجماعات ، بل يحكمون على كل فرد لذاته بغض النظر عن مكانته الاجتماعية وحجم ثرائه . والاهم أنهم لا يسعون للحكم ، ويرفضون أن يكونوا في الحكومات . وبالتالي لا يمكن شرائهم بالمناصب والوعود . يلبسون كما يريدون ويفكرون كما يريدون ويتظاهرون ضد من يريدون .

ومنذ انهيار الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينيات . أزعجوا زعماء العالم ، ولطالما تظاهروا ضد الزعماء وقممهم في عواصم الغرب وحاربوا الكارتيلات والاحتكارات وصرخوا من اجل عدالة التوزيع وسافروا بين القارات ليتضامنوا ضد الجدران وضد الفساد وضد الظلم.. حتى انهم جاءوا الى بيت لحم قبل سنوات، جاءوا شبابا وصبايا وأقاموا تظاهرة عارية تماما ضد جدار بيت لحم !!.

وقد عادوا بقوة بعد جائحة كورونا، هزوا عرش أقوى دولة في العالم، وأرعبوا الشركات الاحتكارية في الولايات المتحدة، وحاصروا منزل نتانياهو من خلال تظاهرات اجتماعية وليست سياسية.

اللافت للانتباه أن هؤلاء الفوضويين لا يحترمون الأحزاب المعارضة الكلاسيكية، ويعتبرون أنها جزء من منظومة الفساد وأنها مجرد ديكور مخملي عند الحكومات .

ولا يوجد عندي أي إجابة إذا كانت تظاهرات الفوضويين سوف تصل إلى المدن العربية أم لا؟.

فالمجتمع العربي لا تزال تحكمه القبائل والطوائف، وتنظيمات القبائل وقبائل التنظيمات. وزعامات الطوائف وطوائف الزعامات