مثل الحالات السابقة، في موجة العنف الحالية التي بدأت في رأس السنة، يُشكل الحرم مصدراً لوقود العنف. ميزة الحرم، اضافة لكونه رمزا دينيا وقوميا يتسبب بسفك الدماء منذ مئة سنة، هي أنه بالنسبة للطرفين توجد مواقف متناقضة حوله وحول ما يحدث في محيطه.
الاختلافات في الرأي متجذرة وتبدأ بتعريف المكان وتصل إلى مغزى مفهوم الوضع الراهن – اضافة إلى تشجيع السياسيين في الطرفين – كل ذلك ينشئ صورة مرآة دامية يكمن فيها على ما يبدو جذر الفلتان الذي ولّد العنف في هذه المرة ايضا.
لو سألوا الاسرائيلي البسيط ما هو الحرم فقد يجيب أنه ساحة ضخمة فوق «حائط المبكى».
المسجد الاقصى هو المسجد الجنوبي، المهم والموجود في المكان.
الفلسطيني البسيط لن يستطيع التمييز بين الاثنين.
بالنسبة للمسلم، المسجد الاقصى يمتد على كل المساحة، والبرهان على ذلك كما يزعم الفلسطينيون يوجد في الاسم العربي للمسجد. في الوقت الذي يسميه فيه الاسرائيليون «جبل البيت»، فان العرب يسمونه المسجد القبلي، ويشددون على أنه لا توجد له مئذنة وهي التي تميز المساجد في العالم.
هذه المآذن توجد في زوايا الحرم الأربع، وتشكل برهانا على أن كل المساحة هي مسجد، وبالتالي فانه مقدس.
ولنفس السبب يؤمن كثير من الفلسطينيين أن أي دخول لأبناء الديانات الاخرى أو الشرطة بالزي الرسمي هو تدنيس لقدسية المكان.
ولا داعي لطرح الوضع الراهن كادعاء مقابل لهذه النظرة، فهذا عامل توتر اضافي. في الوقت الذي يعتبر فيه الاسرائيليون الوضع الراهن في الحرم مجموعة من القرارات التي اتخذها موشيه ديان بعد احتلاله في حرب «الأيام الستة». بالنسبة للفلسطينيين هذا التعريف فارغ من المضمون.
الوضع الراهن بالنسبة لهم يتحدث عن حدث أقدم كثيرا – جذور الاتفاقات التي وقعت بين الامبراطورية العثمانية وبين القوى الغربية في نهاية حرب القرم في القرن التاسع عشر.
الوضع الراهن الاسرائيلي يوازي السيادة الاسرائيلية في الحرم ويبقي الاوقاف الاسلامية مسؤولة عن ادارة المكان ويمنع المصلين اليهود من الدخول اليه.
لكن حسب الوضع الراهن الفلسطيني فان الحرم هو بملكية اسلامية كاملة.
ومن هنا جاء منع أبناء الديانات الاخرى من الوصول اليه. وبالنسبة للفلسطينيين فان حقيقة احتلال اسرائيل واعلان موتي غور لا تعني تغيير الترتيبات القائمة.
لكن الوضع الراهن الاسرائيلي يخيف الفلسطينيين، حيث يؤمن الشعب الفلسطيني أن اسرائيل تخطط لتغيير الترتيبات في الحرم.
ويؤمنون أن اسرائيل في المرحلة الاولى ستسمح لليهود بالصلاة، وفي المرحلة الثانية ستُقسم ساعات الصلاة واماكن الصلاة لليهود والمسلمين – كما حدث في الحرم الابراهيمي. هذه القناعة ترتكز على تصريحات السياسيين والسياسة المعلنة لنشطاء «جبل الهيكل».
وجميع تفسيرات نتنياهو حول عدم وجود نية لاحداث التغيير لم تتمكن من اقناعهم.
الاسرائيليون من ناحيتهم لا يصدقون دعوة الفلسطينيين للدفاع عن الاقصى، وأن هذا لا ينبع من خوف حقيقي، بل يعتبرونه تحريضا على العنف.
وهناك سبب لهذا الشك – هذه الدعوة هي عملة سياسية رخيصة وسهلة الاستخدام بالنسبة للفلسطينيين وتتسبب بدفع ثمن باهظ.
يصعب تجاهل أن اغلبية الشخصيات العامة الفلسطينية التي تحرض الجمهور تعرف أن لا أساس لهذا الخوف.
يختلف الامر بالنسبة للجمهور الواسع، حيث تسقط الدعوات على ارض خصبة.
في اوساط الباحثين في القومية الفلسطينية يسود الادعاء أن هذه القومية تبلورت حول الشعور بالحاجة للدفاع عن الحرم في وجه الكولونيالية الغربية والصهيونية.
لكن الأهم من ذلك أنه منذ احتلال وتوحيد القدس فقد تحول الحرم ليس فقط الى رمز للقومية الفلسطينية، بل ايضا الى رمز القدرة على التحرر من الاحتلال.
هذه ليست أموراً جديدة، ولأجل فهم العمليات في الحرم التي أدت الى الاحداث الحالية، يجب فهم التغيير الدراماتيكي في النظرة للحرم داخل الصهيونية الدينية.
حينما وُضع المبدأ الذي يقول إن اليهود لا يصلون في الحرم في العام 1967، لم يؤثر ذلك على أحد.
كان هناك اجماع بين حاخامات التيارات المختلفة لمنع الذهاب الى الحرم. تحطم هذا «التابو» بالتدريج منذ أكثر من عقد. فالمزيد من الحاخامات يسمحون بالذهاب، والمزيد من اليهود يستجيبون للدعوة.
في البحث الحالي هناك ادعاء أن الرغبة اليهودية في الحرم زادت كلما زادت خيبة الأمل من انسحاب اسرائيل من «المناطق» – بدءاً من سيناء ومرورا باتفاقات اوسلو وانتهاء بالانفصال. مستوى الذهاب الى الحرم مثل عمق الاقتلاع.
هذه التغييرات كان يمكن أن تنتهي بحركة الحرم الصغيرة الاستفزازية التي تعمل اليوم في الحرم.
في نهاية السنة الماضية دخل الحرم 10 آلاف يهودي فقط، أي 1 بالمئة من عدد الجمهور الديني القومي.
والامر الذي أدى الى اشتعال الاحداث هو أن تلك الحركة وجدت موطئ قدم في السياسة – الجناح اليميني في «الليكود» وحركة تكوماه داخل «البيت اليهودي».
في الكنيست السابقة اهتمت نصف دزينة من اعضاء الكنيست والوزراء بشكل يومي بالحرم عن طريق اقتراحات قانون وزيارات استفزازية واحتجاجات ضد منع الصلاة.
كل ذلك اعتبره الفلسطينيون سياسة حكومية واثباتا للمؤامرة الصهيونية.
على هذه المواد المشتعلة صب السياسيون الفلسطينيون الاكاذيب حول نوايا اسرائيل.
المحاولات الاخيرة لابعاد المرابطات من الحرم – النساء اللواتي يصرخن ويشتمن من يدخلون الى المكان – تم تفسيرها من الفلسطينيين كبرهان على نية اسرائيل تغيير الوضع الراهن.
وإلا لماذا يتم ابعاد من يعملن من أجل حماية الاقصى؟ يضاف الى ذلك التوتر المتواصل في الاعياد واليأس من الجمود السياسي، وها هي دائرة العنف تُفتح من جديد.
عن «هآرتس»