عندما اعتدت شرطة نتنياهو على رئيس الشاباك

حجم الخط

بقلم جواد بولس 

 

اعتدت قوات الشرطة الإسرائيلية، في العشرين من شهر أغسطس الجاري، على المتظاهرين والمعتصمين أمام بيت رئيس الوزراء الإسرائيلي في شارع بلفور في القدس الغربية، الذين توافدوا محتجين على تولي بنيامين نتنياهو رئاسة الحكومة، رغم كونه متهمًا في ثلاث لوائح اتهام جنائية خطيرة؛ وقامت بعض عناصر الشرطة وضباطها بشحط وضرب بعض المعتصمين، مثل رئيس الشاباك السابق كرمي چيلون، وعدد من ضباط جيش الاحتلال، وفرّقتهم بعنف كي تخلي المكان لصالح مظاهرة أخرى، دعا اليها مؤيدو نتنياهو وناشطو حزب الليكود، في المكان نفسه.

قد يبدو الخبر للكثيرين عاديًا، فلطالما شاهدنا عصيّ هذه الشرطة وهي تهوي على رؤوس وأجساد المتظاهرين العرب، وبنادقها تطلق عليهم قنابل الغاز المسيل للدموع، أو حتى الرصاص المطاطي والحي، كما جرى فيأحداث يوم الأرض الخالد، أو احتجاجات أكتوبر عام 2000، وفي غيرها من الانفلاتات الشرطية العنصرية القمعية، التي خلّفت وراءها، بين المواطنين العرب، الضحايا والمصابين والأحزان.

وإن كان ذلك الاعتقاد صحيحًا بالمطلق، ستبقى مشاهد وأحداث ذلك المساء فريدة وتاريخية، لأنها حملت دلالات خطيرة على طبيعة التحولات التي مرّ بها نظام الحكم في إسرائيل، وبراهين على انتقاله من نظام عنصري يقمع ويضطهد مواطني الدولة العرب، إلى نظام مستبد وغير ديمقراطي وفاشي، لا يقبل بأي نوع من المعارضة السياسية، حتى لو كانت آتية من داخل المجتمع اليهودي، وتمارسها جهات وشخصيات صهيونية بارزة، وصاحبة تاريخ مشهود في تضحياتها من أجل بناء إسرائيل القوية.

ستبقى مشاهد ضرب الشرطة للرئيس السابق لجهاز المخابرات العامة (الشاباك) كرمي چيلون وإصابته بجروح طفيفة، وصور العنف الممارس على عدد من النساء والشخصيات اليهودية البارزة، التي شاركت في تلك الاحتجاجات، ومنظر العقيد بجيش الاحتلال أمير هاسكل، وهو يجرّ على قارعة الطريق العام أمام أعين العالم، شواهد على كيف تحوّلت شرطة إسرائيل، من جهاز موكل بخدمة الدولة وحماية مواطنيها اليهود – ويمارس بشكل منهجي سياسة القمع العنصري ضد مواطنيها العرب – إلى مسوخ بشرية وإلى ذراع مسيّسة تلاحق وتضرب، باسم رئيس الحكومة وحلفائه، كل معارض ومحتج على شرعية سلطته، وعلى سياساته التحريضية.

إنها آخر الأقنعة؛ سقطت وتعرّى النظام، وظهر بكامل قبحه وشراسته؛ فبعد اليوم سيواجه المواطنون في إسرائيل واقعًا مختلفًا، وكيانًا يُقاد من قبل ثلة تؤمن بأن غاياتها تجيز لها تسخير جميع الوسائل والأحابيل، ونسف كل القيم الإنسانية وتعطيل كل الموجبات القانونية وإلغاءها؛ إنها مجموعة عابثة تؤمن بأنها والدولة والشعب ثلاثة أقانيم متجسدة في شخص زعيم واحد مفدّى.

“تحوّل شرطة إسرائيل إلى ذراع مسيّسة تلاحق وتضرب، باسم نتنياهو وحلفائه، كل معارض ومحتج على شرعية سلطته “.

لم يحدث هذا الانهيار الشامل فجأة؛ فلقد زحفنا على ذلك المنزلق منذ سنوات، وحذّرنا منه، حين كنا نصفع ونلعق ذلّنا مكابرين، ونصيح: كلنا نفدي الوطن؛ وحين كنا نُنْكَب ولا نرعوي، بل نفتش ونغني للملايين، أو لبغدادَ قلعة أسودنا؛ وحين كنا ننتكس فنشكر السماء على لطفها ونمطرها بدعاءاتنا، ونعلن اننا راجعون بقوة السلاح. إن الأقلية العربية في إسرائيل بحاجة، الآن أكثر مما مضى، إلى إعادة نظر في أساليب نضالاتها ووسائل تنظيمها؛ فبعض الفئات الحزبية والحركات السياسية، ما زالت ترفض إعادة حساباتها ورؤية أهم المتغيّرات التي حصلت خلال القرن الماضي، وخلال العقد الأخير، ويصرّ هؤلاء على التمسك بعقائدهم وبمواقفهم الأيديولوجية ورؤاهم السياسية التقليدية؛ فلا يعني مثلًا انهيار الاتحاد السوفييتي أي شيء لبعض الشيوعيين القدامى، ولا تبخر ما كان يسمى «حلف وارسو»؛ بل يحافظ هؤلاء على ترديد الديباجات نفسها الموروثة من العصر الذهبي، ويعظّمون شأن قيصر الكرملين الحالي بوتين، وكأنه رئيس «البوليتبيرو» الذي يقف على رأس «امبراطورية الشمس» التي كانت الصديقة الجبارة لمعظم الشعوب المقهورة.

كان انهيار الحلم الأحمر من أبرز وأهم أحداث القرن المنصرم، لكنه لم يكن الخيبة الوحيدة، التي غيّرت مجرى التاريخ، ساعة بدا هذا لصنّاعه الثائرين، كل من أجل حلمه، واعدًا وزاهرًا؛ فسقوط مشروع القومية العربية بمفهومه الناصري، وتعثر المشروع الإسلامي الإخواني، كانا، من دون شك، حدثين إضافيين بارزين ما زالت تذبذباتهما تخض أواصر وخواصر المنطقة، وتعبث في استقرار شعوبها.

لا وقت لخداع أنفسنا، ولا هوامش للمقامرات، أو للتحليق بنشوة على روائح الماضي وأحلامه؛ فلن ينجو من أنياب هذه الوحوش إلا الشجاع والحكيمواليقظ؛ وشرط هذه النجاة الأول هو اعترافنا بأن اسرائيل الجديدة والقوية والمارقة، هي ليست إسرائيل التي تمسّك مؤسسوها بيهوديتها المقرونة بديمقراطية عرجاء للعرب وكاملة ليهودها؛ فهي اليوم ابنة الظلام، واخت للذين أطفأوا الصباح ورقصوا على جثته، وعلى وجع النايات. يدل كل ما يدور في فلكنا على أن محنتنا سوف تشتد، وأننا سنعاني، كمواطنين عرب، في المستقبل القريب، أضعاف ما واجهناه في سبعة عقود عجاف. وحدنا سنبقى؛ لن يبكينا دجلة الغارق في صدى عراقه، وشوقنا لبردى مؤجل إلى أن يسترد شامه وتتوحد الأوطان! وحدنا كنا، فلا الصحراء أسعفتنا ولا سيوف العربان؛ ووحدنا سلمنا ووحدنا سننام كي نحمل عمرنا ونبدده فوق ربوع جليلنا ونغني «ما أجمله بددا» مع أخطل لبنان. الرمل في ساعاتنا ينفد، فعلينا أن نحسم أمورنا ونقرر كيف ستكون المواجهة وأين مطارقنا ومن هو السندان؟

من يتعقب عناوين مؤسساتنا القيادية، الموجود بعضها اسميًا وبعضها فعليًا، لن يخطئ في تشخيص قصورها المزمن، ومحدودية وسائل نضالاتها ونجاعتها؛ فالقائمة المشتركة، رغم هفوات بعض مركباتها، تجتهد وتعطي ما في وسعها، وذلك ضمن ما تتيحه لها الكنيست كمنصة للعمل البرلماني، الذي مهما كان زخمًا ومؤثرًا، يبقى محدودًا وقاصرًا عن إنتاج مردود سياسي، وحراك شعبي كفيل بمواجهة القوى الشعبية اليمينية وغزواتها في الشوارع وعلى جميع الجبهات. وعلى المدارات المحلية سنجد رؤساء البلديات والمجالس العربية، يغرقون في معاركهم اليومية، وينهكون في محاولاتهم لتحصيل حقوق بلداتهم من خزينة الدولة، بدون أن تعفيهم مجتمعاتهم من سداد فواتير حملاتهم الانتخابية وصفقاتها التي ضمنت لبعضهم الجلوس على كراسي الرئاسة. أما عما تعانيه «اللجنة العليا لمتابعة شوون الجماهير العربية» فقد كتبنا مرارًا وأشرنا إلى ضرورة إحيائها على أسس جديدة، ووفق رؤى سياسية مستحدثة، تتواءم وطبيعة التغييرات التي عصفت بالمجتمع الاسرائيلي وبمجتمعاتنا المحلية، وعلى نطاقات أوسع في منطقتنا والعالم؛ إلا أن الأمر لم يحصل.

وقبل أن استرسل في هذه الجزئية، والوَّم عن غير وجه حق، سأستعير ما كتبه الشيخ كمال خطيب، رئيس «لجنة الحريات» المنبثقة عن اللجنة العليا – وهو بلا شك رجلها الثاني، بعد رئيسها محمد بركة – في معرض ردّه السجالي على إعلان كان قد نشره الإعلامي المعروف وليد العمري، فأجابه الشيخ على صفحته جازمًا وقال: «إن لجنة الحريات هي واحدة من عشر لجان تتشكل منها لجنة المتابعة التي يرأسها السيد محمد بركة، حيث يرأس كل مركب من مركبات المتابعة واحدة من هذه اللجان. هل سمع وليد العمري عن لجنة التخطيط الاستراتيجي، وعن لجنة الأرض والمسكن؟ وعن لجنة القدس واللجنة الإعلامية؟ لا شك أنه لم يسمع والسبب أنها معطلة، ولم يتم تفعيلها والقيام بدورها». هل يبقى بعد هذا الاعتراف الصريح والخطير كلام؟ فاللجنة، للأسباب التي ذكرها خطيب، ولغيرها، لم تعد عنوانًا جاذبًا للجماهير العريضة، ولا مؤسسة تمثل القواسم المشتركة لمواقف أكثرية الناس؛ ولقد برز ضمور دورها بوضوح بعد أن انحسرت معظم نشاطاتها، وبقيت «لجنة الحريات» هي الجسم الوحيد الفاعل باسمها في ميادين ضيقة، في حين أهملت هذه اللجنة دعم سائر الحريات، أو عارضها رئيسها لأسباب فئوية، أو عقائدية لا يخفيها الشيخ، بل يعلنها تساوقًا مع مبادئه الشرعية وإيمانه الديني. من سيقود مراكبنا في هذا البحر الهائج؟

سينبري البعض وسيدعون بأن كرمي چيلون والآلاف ممن شاركوا في الاحتجاجات على حكم نتنياهو وضد تحريضه الأرعن، يفعلون ذلك لخوفهم على مستقبل دولتهم ولحرصهم على سلامة إسرائيل؛ وبالتالي لا تعني صور عناصر الشرطة وهي تضرب بعنف المتظاهرين اليهود، لهؤلاء شيئًا، ولا تعنيهم كذلك حقيقة الاعتداء على رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلي وغيره، وإصابتهم بجراح وإهانتهم على الملأ، بل سيمضي بعضهم وسيهزأون بالحدث، وسيواجهونه بشعاراتهم المقاتلة، وقناعاتهم الثابتة! سيدّعي آخرون بأنّ ما جرى لم يكن سوى مسرحية صهيونية خبيثة علينا الحذر منها وفضحها؛ في حين سيلجأ رهط آخر إلى تفكيك عناصر المشهد بمساعدة شيفرة المؤامرة، وسحر المزايدة، وفي حساباتهم الضارب والمضروب سيان وجميعهم «بطيخ صهيوني» فليكسر بيبي رأس كرمي، ولنبقى نحن راضين على رصيف العروبة، ننتظر الزمن أو نرفع صلواتنا داخل كهوفنا، لأن نصرنا، هكذا تبشر السماء، قريب وزاحف.

لست من أنصار جميع هؤلاء؛ فانا على قناعة بأن ما جرى في العشرين من أغسطس هو إعلان عن ولادة حقبة ومعسكرات جديدة، فأما أن نكون، نحن المواطنين العرب، مع ومن حاصدي جناها، أو أن نصير من جناها المحصود.

* كاتب فلسطيني .