إعلام المال وثقافة القطيع!!

حجم الخط

بقلم عبد الناصر النجار

 

هناك مقولة منسوبة للثائر الأممي تشي جيفارا نصها: «عندما تتبول الحكومات على الشعوب يأتي دور الإعلام ليقنعهم بأنها تمطر».
منذ نهاية القرن التاسع عشر، أي مع ظهور الصحافة، ونحن نشعر في عالمنا العربي بأن المطر متواصل دون توقف، وعلى الرغم من كل ما هو ظاهر فإن كثيرين منا يرددون «مطر مطر»، حتى صدقنا أن ما يسقط فوق رؤوسنا هو «مطر».
مع بداية ظهور الدولة الوطنية، أي مع انتهاء حقبة الاستعمار المباشر، وُلدت الصحافة من رحم الأنظمة السياسية، فكانت صحافةً سلطويةً بامتياز، جلّ همها إقناع الجمهور بشرعية النظام السياسي، وإخفاء سلبياته، والتأكيد على إيجابياته، وقمع المعارضة، بل وتصنيفها في خانة العمالة أو التكفير، أو محاولة تخريب البلد.
وعلى الرغم من أن الصحافة حتى بداية ثمانينيات القرن المنصرم كانت سلطويةً، فإن تأثيرها لم يكن عابراً للحدود، وفي حال الخلافات القُطرية، كان الشتم والتخوين يظل حبيس نطاق الدولة صاحبة الشأن.
مع منتصف الثمانينيات، أي مع ظهور الفضائيات العربية، بدأ الإعلام يأخذ منحى جديداً. ربما قد تم التخلص من هيمنة الحكومات على الإعلام، ولكن جاء ما هو أسوأ، وهو سيطرة المال. بدأنا نلاحظ تهافتاً على التحكم بعقول الجماهير واستقطابها، وجعلها تتبنى مواقف على يمين الحكومات، بحيث أصبح الواقع الذي نعيشه في محيطنا العربي أقرب إلى الوهم منه إلى الحقيقة.
مع بداية انتشارها، حاولت الفضائيات التي يحركها ويوجهها المال السياسي الالتحاق بالمواقف الجماهيرية من أجل تشكيل قاعدة واسعة، ولكنها شيئاً فشيئاً بدأت تدس سمومها في الدسم. وعلى سبيل المثال، ما كان محرماً ويعتبر خيانةً وخطاً أحمر غير مسموح الاقتراب منه أصبح حاجة موضوعية حسب السياسات التحريرية، ومن ذلك إعطاء مساحة إعلامية لقادة دولة الاحتلال للتعبير عن مواقفهم تجاه ما يطرح على الساحة.
ومن هنا بدأنا نشهد ظهور المعلقين والمحللين الإسرائيليين، وهكذا تم الاقتران الأول تحت مسميات «المهنية» و»القصة الكاملة» و»الرأي الآخر».. في الوقت الذي لم يسمح فيه إعلام الاحتلال المراقب عسكرياً بالخروج عن الإجماع الإسرائيلي تجاه القضايا العربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
مع مرور الوقت، بات ما كان محرماً مباحاً، لكي الوعي العربي، وأصبحت الآلة الإعلامية الممولة التي تبتاع الكتاب والمثقفين والسياسيين والمحللين تهدد عقولنا لتخدم أجندات تصب كلها في صالح من لديه القدرة على الدفع. وهكذا خرجنا من فخ الإعلام السلطوي لنقع في حفرة عميقة لإعلام أخطر ونتائجه أصبحت كارثية بمعنى الكلمة.
نظرة اليوم إلى الإعلام العربي بشكل عام تظهر أن الإعلام موجه بطريقة غير أخلاقية، كل هدفها قلب الحقائق وتسميم المعلومات وتشكيل رأي عام كالقطيع الذي يسير في طريق لا يعرف حقيقتها أو نهايتها.
الإعلام الموجه يخلق رأياً مشوهاً من خلال تهويل الأحداث عندما يريد ذلك، وتقزيمها أو حجبها بما يحقق متطلبات السياسة التحريرية، وبذلك أصبح الإعلام العربي في جله يُستخدم كأدوات للتضليل والقهر وتكريس ثقافة القطيع التابع للنظام السياسي والمدافع عنه أكثر من دفاعه عن نفسه.
من يجلس أمام شاشة التلفاز مدة من الوقت ويشاهد أكثر من ١٠٠٠ فضائية عربية، سيلاحظ مدى التناقض، والتزييف والتوجيه والبعد عن أي مفاهيم تنموية أو شفافية أو حرية تعبير، وكأن إعلامنا عاد إلى فترة «غوبلز»، منظّر «هتلر» الإعلامي، الذي كان يعتبر أن الإعلام ليس سوى حقنة توجه إلى عقول الجماهير فتصيبهم وتشكل وعيهم.
جاءت طفرة الإنترنت وهي الأخطر اليوم، بما خلفته من وسائل تواصل اجتماعي، تسببت باستقطاب غريب عجيب وبمعلومات مضللة بعيدة عن الصدقية .. مخترقة من الأجهزة الأمنية ومخابرات الأعداء.. فأصبحنا شعوباً متقاتلة لا نرى سوى الشتم والتحقير والعنصرية.
بمعنى أن إعلامنا العربي سواء الرسمي أو الاجتماعي أدخلنا في نفق مظلم، ولا تجد إلا قلة قليلة تحاول أن تظل ثابتة على مواقفها ومبادئها الأخلاقية، وانحيازها لقضايا الأمة، والشعوب… إعلامنا العربي بحاجة إلى وقت طويل جداً كي يصبح إعلاماً جمعياً ذا قيمة وقادراً على حمل المسؤولية الاجتماعية بأمانة.
الإعلام الموجه والممول، يبث معلومات كاذبة وخطيرة وقائمة على التهديد والتخويف.. وقطع الأرزاق إلا لمن سار في نهج القطيع والمعلن صراحة عبادة الممول؟!!