عقيدة نتنياهو؟ هذيان محمل بالمصائب

حجم الخط

هآرتس – بقلم شلومو بن عامي

ازاء ادعاء أن رئيس الحكومة بأنهم في العالم يتحدثون الآن عن “عقيدة نتنياهو” من اجل تحقيق السلام، يجدر القول بأن توق اليمين في اسرائيل للتوصل الى اتفاق مع العالم العربي دون الالتزام بحل القضية الفلسطينية، لم يولد مع بنيامين نتنياهو. منذ توقيع اتفاق السلام بين اسرائيل ومصر ترسخت في اسرائيل فروقات في المقاربة بين اليمين واليسار حول الطريقة التي من خلالها يمكن السعي الى التوصل الى اتفاقات سلام. اليسار آمن بشكل عام بأن الاتفاق مع الفلسطينيين هو المدخل الحصري للسلام مع العالم العربي. ومبادرة السلام السعودية التي كانت مبادرة عربية عامة من العام 2002 رسخت لفترة طويلة هذا التشخيص، عندما اشترطت التطبيع بالسلام بين اسرائيل والفلسطينيين، رغم الثمن الباهظ الذي يشمل اعادة المناطق وحل مشكلة اللاجئين.

​ولكن قبل سنوات من ذلك، في كامب ديفيد، أظهر مناحيم بيغن وانور السادات بأن اسرائيل يمكنها التوصل الى سلام مع مصر، الدولة العربية التي بدونها لن تكون حرب شاملة ضد اسرائيل، حتى بدون حل المشكلة الفلسطينية. صحيح أن بيغن وافق على تعهدات وصيغ بعيدة المدى في القضية الفلسطينية، لكنه هو والسادات ادركا أن الامر يتعلق بسلام منفرد، وأن القضية الفلسطينية يمكن أن تضع في طريق هذا السلام عقبات في المستقبل لكنها لن تؤدي الى الغائه. هكذا، السلام مع مصر بقي على قيد الحياة وتجاوز حرب لبنان وقتل السادات والربيع العربي والانتفاضتين ومعهما تعميق الاحتلال في المناطق. السلام صمد ونجا حتى من رئاسة محمد مرسي، الرئيس المصري الذي جاء من صفوف حركة الاخوان المسلمين.

​بيغن سعى الى ادخال القضية الفلسطينية في كبسولة تحيطها اوضاع سلام أو عدم اعتداء مع دول عربية، الامر الذي سيمنعها من التحول الى عامل محفز لحرب شاملة. وللحقيقة، ايضا ابطال السلام من اليسار لم يتمسكوا دائما بمبدأ مركزية القضية الفلسطينية. رابين بدأ حملة السلام خاصته بالتفاوض مع سوريا. ولو أنه تمكن من التوصل الى السلام مع دمشق لكان من المشكوك فيه أن يذهب الى اوسلو. الاردن أراد التوصل الى السلام مع اسرائيل فقط في اعقاب الخوف من أن اتفاقات اوسلو ستبقيه بدون أي تأثير في الفضاء الفلسطيني، الامر الذي يعتبر أمر وجودي بالنسبة للمملكة الهاشمية.

​شمعون بيرس ايضا الذي لم تكن لديه القوة لاستكمال اتفاق الخليل، توسل لحافظ الاسد فور قتل رابين بأن “يطير أعلى وأسرع” (حسب تعبيره) نحو اتفاق سلام ثنائي. ايضا اهود باراك بدأ محاولته للسلام بدمشق رغم أنه اعتبر التوصل الى اتفاق مع السوريين شرط حيوي للانسحاب المنظم من لبنان، وليس بالضرورة محاولة لتحييد المسألة الفلسطينية. بالتحديد اهود اولمرت هو الذي سعى بشجاعة الى سلام في الساحتين، السورية والفلسطينية. وتعامل معهما على أنهما أواني مستطرقة.

​مثل أسلافه، ايضا يوجد لنتنياهو دافع مفهوم لوضع بصماته بعمل سياسي كبير. فهو ايضا في ولايته الاولى تفاوض مع سوريا حول اتفاق سلام شمل النزول من هضبة الجولان (هو بالطبع ينفي ذلك). وقد استكمل في حينه اتفاق الخليل – جزء من اتفاقات اوسلو – الامر الذي لم يمنعه من تعهد الحاضنة المسيحانية العنيفة في المدينة.

​في العام 2014 ذهب نتنياهو بعيدا مع ادارة اوباما، الى اتفاق اطار مع الفلسطينيين. ولكن في نهاية المطاف، مثل اريئيل شارون من قبل، أدرك العبرة التي تم تعلمها من محاولات السلام لزعماء اليسار: المفاوضات مع الفلسطينيين تعتبر مثل الدخول الى فوضى، التي في نهايتها ستكون قرارات تؤدي الى فقدان السلطة. لحظة مؤسسة في هذا السياق كانت اتفاق واي الذي وافق فيه نتنياهو على الانسحاب من 13 في المئة من اراضي الضفة، الامر الذي أدى الى حل الائتلاف. والخوف من فقدان السلطة هو الذي يحدد منذ ذلك الحين علاقته بالمسألة الفلسطينية، حتى عندما يكون واضحا بأن غياب قرار حاسم سيدهور اسرائيل الى الهاوية، وحتى عندما تجرنا جمهورية مستوطنين في المناطق الى دولة ثنائية القومية في وضع حرب اهلية مستمرة.

​الصياغات بعيدة المدى التي وافق عليها نتنياهو في النقاش حول اتفاق الاطار في 2014 استندت الى افتراض أن ائتلافه اليميني لن يوافق عليها. في حين أن الرئيس اوباما كان على قناعة بأن نتنياهو يلعب العاب سلام مع نظرة الى ايران، على صيغة “بوشهر مقابل يتسهار”، التقدم في الساحة الفلسطينية مقابل عملية امريكية ضد مشروع ايران النووي. وعندما “خان” الامريكيون نتنياهو عند توقيع الاتفاق النووي مع ايران، فقد اهتمامه بفلسطين.

​صحيح ايضا أنه طوال المفاوضات اعتمد على أن محمود عباس سيخرج لصالحه الكستناء من النار. وهكذا، رفض الرئيس الفلسطيني الوثيقة. هذه لم تكن المرة الاولى التي فيها الانفصال عن الواقع من قبل الحركة الوطنية الفلسطيني منح الدعم للرفض الاسرائيلي. فؤاد عجمي، المستشرق الامريكي من اصل لبناني – شيعي، كتب في كانون الثاني 2001 غداة الرفض الفلسطيني لخطة سلام كلينتون عن الميل القسري للحركة الوطنية الفلسطينية الى “التمرد على منطق الامور” والتوقع الدائم بأن تأتي قوة غامضة لمساعدتها وكأن قوانين التاريخ لا تنطبق عليها.

​منذ ذلك الحين بقي امام نتنياهو أن يبحث عن هالته في الشرق الاوسط الواسع. الربيع العربي وتهديد ايران وتحدي الاسلام الراديكالي للانظمة المحافظة في المنطقة والرعب الذي اصابها عند انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة وفقدان مركزية القضية الفلسطينية، كل ذلك استندت اليه اسرائيل من اجل رعاية تعاون سري، أمني بالاساس، مع المحور السني برئاسة السعودية. هذه العلاقات تطورت خلال السنين ايضا مع اتحاد الامارات.

​إن حرص نتنياهو على تأطير اتفاق التطبيع مع الامارات بأبعاد تاريخية وكأنه اتفاق سلام، يضعه في نفس المستوى، حسب تعبيره، مع بيغن ورابين، هو خدعته البلاغية المميزة. السلام مع دول المواجهة، مصر والاردن، وبالتأكيد حل القضية الفلسطينية هي حقا أمر وجودي.

​إن الكشف العلني عن العلاقات مع اتحاد الامارات والتي تجري منذ سنوات مثل العلاقة مع العشيقة في الظلام، هو خيار استراتيجي لا يحل أي تحدي وجودي لاسرائيل. والدق المخجل لنتنياهو على صدره وكأنه خلافا لأسلافه صنع السلام بدون اعادة اراض، هو تضليل مميز: أي اراض امتنع عن اعادتها لدولة تبعد آلاف الكيلومترات عنا، ولم تكن لنا في أي يوم حرب معها أو نزاع على الحدود؟.

​اذا صمم رغم ذلك على أن يقود النقاش في موضوع الاراضي فان الضم في الضفة – الذي وعد به اليمين الاستيطاني والذي منذ البداية كان غير قابل للتطبيق – تم دفنه نهائيا على يد اتفاق التطبيع. واذا اراد هو أو أحد ورثته احياءه في الوقت الذي تكون فيه سفارة الامارات في تل ابيب، فهذا سيكون خرق لاتفاق التطبيع وسيتم اغلاق السفارة. بالتحديد الطريقة التي ضخم فيها نتنياهو وترامب اتفاق التطبيع الى درجة اعتباره انجازا تاريخيا، سهلت على اتحاد الامارات اعتبار نفسها وكأنها دولة مواجهة، اتفاق السلام مع اسرائيل يلزم الولايات المتحدة بتطوير قدراتها العسكرية مثلما حدث مع مصر والاردن في اعقاب توقيع اتفاق السلام مع اسرائيل. ودول مواجهة مثل مصر والاردن وسوريا اعتبرت دائما السلام مع اسرائيل كمقدمة لانعطافة في مكانتها في الولايات المتحدة وممر لمساعدات امريكية اقتصادية وعسكرية.

​لا يوجد شك في أنه لو أن رابين وباراك واولمرت ونتنياهو، أجل نتنياهو، الذين جميعهم تفاوضوا مع سوريا على اتفاق سلام على اساس الانسحاب الى خطوط 1967، قد توصلوا الى اتفاق مع عائلة الاسد في دمشق، فان سوريا كانت ستتحول الى حليفة للولايات المتحدة بالضبط مثلما حدث مع مصر، الانتقال من التحالف مع الاتحاد السوفييتي الى التحالف مع الولايات المتحدة، كتعويض عن السلام مع اسرائيل. ليس صدفة أن سوريا بدأت باظهار اهتمامها باتفاق سلام مع اسرائيل عند تفكك الاتحاد السوفييتي.

​نتنياهو الذي رفع اتفاق التطبيع الى مستوى اتفاق السلام مع مصر، وهناك من اعتبروه، لشديد الدهشة، اتفاق مهم جدا (هذا ما فعله رئيس الموساد السابق شبتاي شبيط)، ليتفضل اذا وليبتلع ثمنه المتمثل بتزويد سلاح امريكي ذي نوعية استراتيجية. الحرب يصنعونها بالمكائد، أما السلام فيجب أن يكون موضوع أكثر شفافية. نتنياهو ذهب الى هذا السلام مع العصا المعروفة، نفى بأنه باع الضم وفتح الطريق أمام تزويد طائرات متملصة وطائرات بدون طيار متقدمة للامارات، وهي خطوة تمثل كسر لمبدأ التفوق النوعي لاسرائيل الذي تم احترامه من كل الادارات السابقة في امريكا. وكما هو مقبول في طريقة الادارة الديكتاتورية التي عودنا عليها، ايضا أبعد عن كل هذه العملية وزير الدفاع ووزير الخارجية، رؤساء الاركان السابقين اللذان يمكن أن يفهما في هذه الامور شيء أو شيئين.

​ليس الخوف الذي لا اساس له من التسريب هو الذي جعله يعمل في الظلام، بل المعركة على من يكون له الفضل، ولا يقل عن ذلك الخوف من أن يقوم بتوجيه اسئلة صعبة فيما يتعلق بالخيوط البالية التي تركها، على سبيل المثال موضوع شراء السلاح المتطور من قبل الامارات، في الوقت الذي يكون فيه متحمس للاعلان عن “سلام تاريخي”. هكذا قام ايضا في حينه باقصاء وزير الدفاع ورئيس الاركان عن المصادقة التي اعطاها للمستشارة الالمانية، انغيلا ميركل، على بيع غواصات متقدمة لمصر.

​اتحاد الامارات هي دولة صغيرة وثرية مع نزعة انتشار استراتيجية لدولة عظمى، يدها توجد في كل شيء، لذلك اعداءها كثر. حلفاؤنا الجدد يوجدون الآن في حروب بعيدا عما هو حيوي بالنسبة لاسرائيل، ويجب عليها الحفاظ على عدم الانجرار الى نزاعات لا تتعلق بأساس أمنها القومي. مصر والامارات غارقتان الآن حتى العنق في الحرب الاهلية في ليبيا الى جانب روسيا والجنرال المتمرد ضد الحكومة المعترف بها من قبل المجتمع الدولي، خليفة حفتر. وعلى الطرف الثاني للمتراس تتواجد تركيا وقطر وايران والمليشيات الاسلامية. الامارات ايضا تعمل في سوريا بالضبط الى جانب النظام (بصورة غير مباشرة الى جانب ايران) في الحرب ضد غزو تركيا لشمال الدولة.

​الحذر واجب ولو لأنه مثل الامريكيين يوجد لنا نحن الاسرائيليون ميل الى العمل في هذه المنطقة كسياح ساذجين في بلاد اجنبية (تعبير لمارك توين في رحلاته في البحر المتوسط وفي الارض المقدسة، الذي يصف السذاجة المتجسده للامريكيين عند خروجهم من بلادهم). في حرب لبنان الاولى التي فيها انجرت اسرائيل الى الايمان بالتحالف الذي نسجته مع المسيحيين، تعلمت بالطريقة الصعبة حدود قدرتها على التصرف في اطار ثقافة الانكار وتغيير الولاء بشكل سريع في المنطقة.

​هذا ليس سيناريو خيالي تماما، أن تقوم دول الخليج بثورة دبلوماسية وايجاد طريقة للتعايش بسلام مع ايران. سلطنة عمان، مثلا، توجد في وضع كهذا. في الواقع، الاتفاق النووي بين ادارة اوباما وايران والذي اثار غضب اسرائيل والسعودية ودول الخليج، بدأ بمفاوضات سرية جرت في سلطنة عمان.

​ومن غير الصحيح ايضا الادعاء بأن نقطة الانكسار في العالم العربي هي بين السنة والشيعة: هذه النقطة توجد في الصراعات على القوة والموارد والنفوذ. وخلافا للولاء الديني فان التفضيل الاستراتيجي يمكن أن يتغير. عمليا، توجد لاتحاد الامارات مؤخرا مواجهات اكثر مع محور تركيا – قطر، الدولتان السنيتان، مما يوجد لها مع ايران. بالاجمال، تركيا وقطر، وليس ايران، هما اللتان ترعيان حركة الاخوان المسلمين، عدوة دول الخليج ومن بينها دولة الامارات.

​الامارات ايضا تخلت مؤخرا عن الحرب ضد الحوثيين الذين ترعاهم ايران في اليمن وتركت السعودية لوحدها في المعركة. والامارات تتعاون في الوقت الحالي مع ايران في الحرب ضد وباء الكورونا، وحتى أنها قامت مؤخرا بتحرير مئات ملايين الدولارات الايرانية التي تم تجميدها في بنوك محلية، وهي خطوة تعتبر تحديا فظا ضد سياسة “الضغط بالحد الاعلى” لادارة ترامب على ايران.

​هل من المحتمل اذا أنه ليس محاربة ايران هي الدافع الرئيسي الذي يقف من وراء هذا “السلام التاريخي”، بل بالذات محاربة تركيا؟ هذا يفسر الرد العنيف للرئيس اردوغان على الاتفاق. ولا يقل عن ذلك السرعة التي اعلنت فيها بصورة بشكل علني عن دعمها لليونان في صراعها مع تركيا في مسألة التنقيب عن الغاز في شرق البحر المتوسط. وليس مستبعدا أن شراء الطائرات المتملصة والطائرات بدون طيار، هجومية متطورة، تعتبره الامارات عامل ديناميكي في قرارها كشف علاقتها مع اسرائيل، وبذلك تعطي حقنة تشجيع لترامب في حملته الانتخابية، وهو محفز جيد للصفقة المطلوبة.

​نتنياهو يضلل عندما يشير الى معارضته لتزويد سلاح نوعي استراتيجي كهذا لاتحاد الامارات. هذا السلاح هو “قلب” السلام التاريخي خاصته، بالضبط ليس أمر زائد. صحيح أن المحور السني يعتبر اسرائيل قوة عسكرية وتكنولوجية من الجدير التعاون معها ضد أعداء مشتركين، لكن الاكثر اهمية بالنسبة لهم هو ربط الولايات المتحدة باتفاقات على سلاح متطور كطريقة اخرى لمنع خروجها من المنطقة (“هذه مشكلتهم”، رد ترامب على هجوم ايران الفتاك على منشآت النفط السعودية قبل سنة تقريبا).

​اسرائيل هي الخط الواصل الى قلب امريكا، الطريق لتقليل النزعات الانفصالية ووقف تراجعها عن التزاماتها لحلفائها. سلاح استراتيجي ليس منتوج معروض على الرف، ينساك البائع بعد لحظة من شرائك له. في هذه الحالة يتحول الى بديل عن حلف دفاعي. وتأطير اتفاق التطبيع مع الامارات كجزء من الحرب مع ايران، الامر الذي يترك انطباع جيد في الرأي العام الامريكي ويساعد في الحفاظ على التدخل الامريكي في المنطقة.

​اتفاق التطبيع هذا يجب أن نضع الى جانبه نجمة صغيرة لامعة. سيكون خطأ تاريخيا اذا سخرت اسرائيل من تحالفاتها الجديدة، وبدلا من تجنيدها لدعم حل عادل لتحديها الوجودي – القضية الفلسطينية – استمرت في استخدامها لادانة الاحتلال الفاسد والمفسد. خطة ترامب، كما سيقال، لا تعتبر حلا عادلا، لا على يد الفلسطينيين ولا على يد المجتمع الدولي، وايضا ليس على يد افضل الادمغة المتخصصة بالشؤون الامنية في اسرائيل.

​أنا اعرف من مصدر أول كم هو صعب ومحبط محاولة التوصل الى اتفاق سلام مع الفلسطينيين. ولكن افتراض أن تحالفات عسكرية كهذه أو غيرها هي العلاج للخطر الوجودي الكامن في التدهور نحو دولة ثنائية القومية، هو هذيان محمل بالمصائب. هذا سيكون مثل وضع جنوب افريقيا الذي لا يمكن في أي يوم أن يؤدي الى حل جنوب افريقي يتمثل بسلطة الاكثرية العربية. ومصيره أن يتطور الى حرب اهلية مستمرة. هذه هي الخيانة الاكبر للفكرة الصهيونية، قبل أن تحدث فيها الطفرة الخبيثة في السنوات الاخيرة.