حماية الأمن القومي الإسرائيلي ما بين الرعاية الأمريكية والتوظيف العربي

حجم الخط

بقلم العميد: أحمد عيسى

 

المدير العام السابق لمعهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي

منذ الإعلان عن قيامها في المنطقة العام 1948، أقام المؤسسون الأوائل لدولة إسرائيل منظومة الأمن القومي للبلاد على ثلاثة ركائز (الردع والإنذار المبكر والحسم).

كما تطلَّب الواقع الجيوسياسي للدولة الناشئة لتوها في المنطقة العمل على توفير ثلاثة شروط لضمان البقاء، لا سيما بعد أن أعلنت الدول العربية المحيطة بها، وكذلك أصحاب البلاد الأصلانيون أنهم في حالة حرب معها، حيث كان أول هذه الشروط ضمان الدولة الناشئة عدم توحد العرب أبداً في قوة واحدة مؤثرة، أما ثاني هذه الشروط فهو ضمان إسرائيل تحديد مكان وزمان الحرب، ويدور ثالث هذه الشروط حول ضمان إسرائيل لعدم تزامن اندلاع حرب على الحدود، مع اندلاع انتفاضة داخلية يبادر إليها سكان البلاد الأصلانيون.

وتأسيساً على ذلك، أصبحت رعاية دولة عظمى للدولة عسكرياً واقتصاديا ودبلوماسياً حاجة ضرورية، إذ لا يمكن للدولة وحدها تلبية الاحتياجات المطلوبة لإدامة فعالية الركائز وشروط البقاء، لا سيما أن قدرات الدولة من حيث المساحة وعدد السكان والموارد الطبيعية محدودة، ولا تكفي لتلبية هذه الاحتياجات.

وكان الاتحاد السوفييتي هو الدولة الراعية الأولى لإسرائيل، ثم حلت مكانه فرنسا، ثم جاءت الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة بعد انتصار الجيش الإسرائيلي على جيوش مصر والأردن وسوريا في حرب العام 1967، لتصبح الدولة الراعية الثالثة لإسرائيل حتى يومنا هذا.

وبينما وفرت الرعاية الأمريكية لإسرائيل شروط البقاء، فإنها في المقابل عمقت من مأزق إسرائيل الجيوسياسي، إذ بات على إسرائيل أن توازن بين ثلاثة مصالح في تعاملها مع الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة:

1- ضمان عدم اندلاع انتفاضة في المناطق الفلسطينية بالتزامن مع اندلاع حرب على الحدود.

2- عدم المساس بمصالح الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، لا سيما أن هناك مصالح مشتركة للأخيرة مع دول الخليج النفطية، الأمر الذي وضع قيوداً على إسرائيل تمنعها من حسم صراعها مع الشعب الفلسطيني من خلال مواصلة إبادته أو تهجيره كما حدث العام 1948.

3- مواصلة تقسيم وتفريق العالم العربي ومنعه من التوحد في قوة عربية واحدة مؤثرة من خلال توظيف الدبلوماسية، الأمر الذي ضاعف من قيود إسرائيل في تعاملها مع الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، وجعل من استراتيجية الاحتواء الاستراتيجية الوحيدة في التعامل معه.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الرعاية الأمريكية لإسرائيل لم تكن بوتيرة واحدة طوال العقود الخمسة الماضية، إذ ضعفت هذه الرعاية بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار الإتحاد السوفييتي العام 1991، وهيمنة الولايات المتحدة على النظام العالمي برمته ضمن ما يعرف بنظام القطب الواحد.

إلا أن هذه الرعاية سرعان ما عادت، وربما بشكل أقوى، مما كانت عليه خلال الحرب الباردة نتيجة لبروز تهديدات جديدة للأمن القومي الأمريكي في المنطقة، كان من أبرزها تهديد العراق أمن واستقرار الخليج، لا سيما بعد احتلاله الكويت العام 1991، علاوة على الإرهاب العالمي المتمثل في تنظيم القاعدة التي أحكمت سيطرتها في حينه مع حركة طالبان على أفغانستان، حيث نجحت إسرائيل نتيجة لقوتها الاستخبارية في أن تجعل من نفسها دولة مفيدة لأمريكا في مواجهتها هذه التهديدات.

وكان من اللافت في هذا الشأن أن المحددات الاستراتيجية للرعاية الأمريكية لإسرائيل لم تتبدل، لا سيما فيما يتعلق بالاستراتيجية الإسرائيلية نحو الفلسطينيين، إذ ظلت استراتيجية الاحتواء هي الاستراتيجية المفضلة أمريكياً وعربياً، الأمر الذي قيد من قدرة إسرائيل على تسجيل نصر حاسم على الفلسطينيين.

من جهتها، تجادل هذه المقالة أن وصول الرئيس ترامب لسدة الحكم في أمريكا العام 2016 قد دفع بالرعاية الأمريكية لإسرائيل إلى نقطة الذروة، إذ حطم كل المحددات الاستراتيجية المتعلقة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، التي حافظت عليها الإدارات الأمريكية المتعاقبة طوال العقود الخمس الماضية، الأمر الذي تجلى بوضوح في رؤية الرئيس ترامب المعروفة بصفقة القرن التي انطوت على تهديدات استراتيجية للشعب الفلسطيني، إذ أزالت القيود الأمريكية عن الغايات والمقاصد الإسرائيلية في أرض فلسطين، وسمحت لإسرائيل بالسعي نحو تحقيق نصر حاسم على الشعب الفلسطيني، من خلال تحرير إسرائيل من استراتيجية الاحتواء، ما جعل من استراتيجية التهجير (النكبة الجديدة) والإبادة الجماعية أكثر احتمالاً للحدوث.

هنا يكمن التحدي من وجهة النظر الفلسطينية أمام الدول العربية التي راحت تبرر تحالفها مع إسرائيل بأن هذا التحالف ينطوي على فرص جديدة، على الفلسطينيين استغلالها، لا سيما أن 70 عاماً من مقاطعة إسرائيل لم تُعد للفلسطينيين حقوقهم، كما صرح السيد أنور قرقاش لمحطة CNN الأمريكية بتاريخ 15/ 8/ 2020، كما أن هذه المنطقة من الاختلاف هي المنطقة التي يجب أن يتركز فيها النقاش الحقيقي بين الفلسطينيين ودولة الإمارات العربية، وبقية الدول العربية التي تنوي اللحاق بها، وذلك على قاعدة أن التحالف مع إسرائيل في هذه المرحلة من الزمن ينطوي على تهديدات وجودية للشعب الفلسطيني وحقوقه، أكثر مما ينطوي عليه من فرص.

وفي الختام ترى هذه المقالة أن التحالف العربي مع إسرائيل في هذه المرحلة من الزمن التي تشهد تحولات جذرية على صعيد النظامين العالمي والإقليمي يتطلب من الولايات المتحدة الأمريكية المهيمنة على النظامين مغادرة الشرق الأوسط والتوجه نحو الشرق حيث الصين الصاعدة بثبات نحو قيادة النظام العالمي، الأمر الذي بدوره يخلخل الرعاية الأمريكية للأمن القومي الإسرائيلي، ويجعل من الدول العربية، لا سيما الخليجية حيث المال والثروة، هي البديل الأمثل لتقديم الرعاية الاقتصادية والدبلوماسية للأمن القومي الإسرائيلي.

ويمكن الإستدلال على هذا التحول في الرعاية والاستعداد الإسرائيلي المبكر له من خلال قراءة مسوح الرأي العام الخاصة بمؤشرات الأمن القومي في إسرائيل، إذ بدأت المراكز المتخصصة في دراسات الأمن القومي في إسرائيل منذ تسلم الرئيس ترامب مقاليد الحكم في أمريكا مطلع العام 2017، بإثارة مسألة الرعاية الأمريكية للأمن الإسرائيلي في أوساط الشعب، خاصة المكون اليهودي منه، وذلك من خلال سؤال الجمهور عن مدى ثقته بقدرة الدولة على مواجهة التهديدات التي تواجهها دون الاعتماد على الرعاية والدعم الأمريكيين،.

من جهتها، قيادة إسرائيل السياسية والعسكرية تدرك أنها ستكون أكثر أمناً، إذا اعتمدت على دعم ورعاية الدول العربية المحيطة بها، من اعتمادها على الرعاية والدعم الأمريكيين طالما كانت هذه الرعاية في سياق تحالف الطرفين استراتيجياً مع أمريكا.