نتنياهو يسوّق «اتفاقات التطبيع» عـبــر الـبــوابـة «الـتـــاريـخـيــــة»

حجم الخط

بقلم: شلومو بن عامي



تطرق رئيس الحكومة المتكرر للمغزى التاريخي المتميز لاتفاقات التطبيع مع الإمارات والبحرين أعادني الى العنوان الذي أعطاه ميخائيل كونفينو، مؤرخ مهم لروسيا القيصرية، لمحاضرة عن «الوعي التاريخي في ثقافتنا المعاصرة»، ألقاها قبل سنوات في جامعة تل أبيب. هذا العنوان (الشعار) تم أخذه من رسالة لمناحيم نخلسون في «يديعوت احرونوت» في شباط 1980، نشرت تحت عنوان «التاريخ لا يعود»، ويتطرق للأيام الأولى للسلام مع مصر.
هاكم ما كتبه: «حتى هذا التاريخ لم يكن ما كان ذات يوم. شخص ما أعطى الأمر، وخرجنا في دورية مشتركة أولى إسرائيلية – مصرية على طول خط الحدود الجديد. شعور تاريخي عميق. نحن في سيارة للقيادة، والمصريون في جيب. الصحراء زاخرة بالتاريخ. كل انعطافة هي تاريخية. للمرة الأولى في التاريخ. تاريخ، قلت للسائق نسيم. التاريخ هو، هز رأسه في محاولة لتغيير سرعة السيارة التي تصدر صوت بصورة تاريخية. في نهاية طريق الدوريات نزلنا. المصريون ينزلون، ومعهم نلتقط صورة تاريخية مشتركة. لا ينسى التاريخ الذين قاموا بالدورية المشتركة الأولى. بعد ذلك عدنا الى القاعدة، وفيما بعد جاء سؤال من المسؤولين: لماذا قمنا بدورية مشتركة، وليس هناك شيء كهذا في اتفاق السلام بين إسرائيل ومصر؟ يجب أن يتم وقف نزهة الصباح المشتركة هذه على الفور. جيد، عندها أوقفنا الدورية المشتركة، لكن على الأقل صنعنا تاريخا، لأننا شاركنا في الدورية المشتركة الوحيدة التي حدثت في يوم من الأيام في سيناء».
اجل، السلام مع الدولة العربية العظمى، الذي لم يحدث مثله لا قبلنا ولا بعدنا، يعطي معنى لهذا التضخم من التعابير التاريخية. اذا كان التطبيع مع الإمارات، الدولة التي لم نحاربها في أي يوم وفعليا لنا معها علاقات سرية منذ سنوات، هو حدث تاريخي، أي وصف بقي شاغرا كي نصف زيارة الرئيس المصري، أنور السادات، الى القدس والسلام مع مصر الذي جاء في أعقابها؟ الهزة والدهشة التي تملكت الإسرائيليين في الوقت الذي هبط فيه السادات على سلم الطائرة وسار نحو صف القادة الذين قادوا إسرائيل في حروب دموية ضد بلاده، تشبه فقط ما شعرنا به جميعا عند هبوط نيل ارمسترونغ على القمر، ليس أقل من ذلك.
السؤال هو لماذا يرفض الجمهور في إسرائيل السير مع رئيس حكومته في إصراره على تسويق اتفاقات التطبيع مع الدولتين الخليجيتين كأحداث تاريخية، نوع من السلام الذي لم يستطع أحد من أسلافه أن يحققه؟ في نهاية المطاف هناك كما يبدو في هذه الاتفاقات إمكانية كامنة لتأثير الدومينو، الذي سيؤدي الى إنهاء النزاع الإسرائيلي - العربي في الوقت الذي يواصل فيه النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني الغليان.
سبب واحد يكمن في التعب المتراكم لرئاسة الحكومة من قبل نتنياهو، والتي تدار مثل حملة تسويق مستمرة. يوجد في هذا الرجل المؤهل ميل قسري لتحويل ما كان يجب أن يكون حوارا شفافا مع الجمهور الى تسلسل من خطابات الدعاية المليئة بالمؤثرات الصوتية التي تم إعدادها مسبقا، وكأن الحكم ليس سوى حملة انتخابية مستمرة مبنية على أنصاف حقائق، ولا نريد القول مقولة كاذبة مبدئيا، مثل تعريف حنا آرندت في مقالة لها حول «الحقيقة والسياسة».
مع مستويات الفقر المرتفعة في الغرب وجهاز الصحة الضعيف، اقتصادنا هو الأفضل في العالم. بشكل عام كان لإسرائيل اقتصاد من البرتقال والبندورة الى أن جاء نتنياهو وحولها الى شعب المشاريع الناشئة. إليه يحج زعماء العالم من اجل نصائحه. وبعد ذلك جميعهم يصوتون ضده في مؤسسات الأمم المتحدة. فقط هو يعرف كيف يوجه العلاقات مع الولايات المتحدة رغم مسؤوليته عن تآكل الدعم من كلا الحزبين لإسرائيل. هكذا أيضا تصرف في تسويق الاتفاق مع دول الخليج: اخبر بأنصاف الحقائق، أخفى موضوع بيع الطائرات المتطورة، ادعى أن الضم ما زال موجودا على الأجندة، وطمس تعهده بحل الدولتين. هكذا وبلا داع، يتم تقليص إنجاز سياسي مهم الى مرتبة خلية اخرى في سلسلة الحيل.
السبب الثاني هو أن النزاع الإسرائيلي - العربي الذي قلت خطورته منذ خرجت مصر من دائرة الحرب، تبخر تماما منذ كشف «الربيع العربي» عن الهشاشة وعن غياب الشرعية العميق للأنظمة في المنطقة، لهذا وجه طاقات هذه الأنظمة لصراعاتها من اجل البقاء. ليس فقط تم تحطيم بقايا شهيتهم في المواجهة مع إسرائيل، بل عقدوا معها تحالفات سرية لمحاربة أعداء مشتركين، مع دفع القضية الفلسطينية الى اسفل سلم الأولويات.
أراد مؤرخ العهد القديم، تسفي يعفيتس، ذات يوم أن يعلمني قيمة التناسب في فهم حدث تاريخي. وقد فعل ذلك بمثال من عالم كرة القدم، الذي يشكل حبنا المشترك. كان يعرف حتى كل أسماء لاعبي منتخب الاورغواي الذي فاز ببطولة العالم في 1930. كلانا وافق على أن هدف موتيلا شبغلر ضد منتخب السويد في نهاية المونديال في المكسيك في 1970، كان حقا «هدفا تاريخيا» في نوعيته، وبالأساس في أوليته، حيث كانت هذه المرة الأولى والأخيرة التي وصلت فيها إسرائيل الى المونديال. ولكن في سياق قيمة التناسب في فهم التاريخ، كانت لديه قصة ليرويها عن ناحوم ستلماخ، اللاعب الأسطوري في فريق هبوعيل بيتح تكفا الذي كانت عظمته في تسجيل أهداف بالرأس. يتبين أن المراسل الرياضي المتوفى الذي عمل في صحيفة «لمرحاف»، الصحيفة الناطقة باسم «احدوت هعفوداه»، كتب أنه يوجد لستلماخ «رأس من ذهب». ولم يكد يجف حبر المقال حتى قام محرر الصحيفة باستدعاء المراسل من اجل محادثة توبيخ. «اذا كان لستلماخ رأس من ذهب، فأي رأس يوجد حسب رأيك لتبنكين؟» (الزعيم الذي كان بمكانة الحاخام الأكبر لـ»احدوت هعفوداه»). وحظيت بالتعرف عن قرب على الفردو ديستيفانو، لشديد الأسف فقط في نهاية حياته، وهو لاعب كرة قدم كبير لم يلعب أحد حتى ميسي مثله على الملعب، وسمعت منه عن معجزات البطولات الأوروبية الخمس المتعاقبة التي قاد فيها ريال مدريد مع ترانس بوشكاش، أسطورة كرة القدم بحد ذاته، وبطريقة ما يتأثر بدرجة أقل من «التاريخية» الموجودة في ظاهرة ميسي.
على أي حال، التقليل من شأن التاريخ في الخطاب السياسي يعكس تجاهل إنجازات الماضي وخيانة الذاكرة واحيانا إنكارها التام. يدور الحديث عن رفض رؤية مكانة الحدث كجزء من عملية بدايتها في أحداث اختراقية من الماضي. نتنياهو جدير بالثناء على أنه عرف كيف يتزلج على ظروف إقليمية لم يكن له أي تأثير على حدوثها، وتسبب بإنهاء عملية تطبيع تم بناؤها سنوات طويلة قبله. أيضا تفاخره في اختراع معادلة سلام من خلال قوة ليست سوى إعادة صياغة لـ»السور الحديدي» لجابوتنسكي، وهي صيغة عملت أيضا حركة العمل بحسبها. ليس في هذا أي جديد. لولا القوة التي بناها أسلاف نتنياهو، لا مصر ولا الأردن ولا حتى سورية، لم تكن لتكلف نفسها عناء السعي الى عقد سلام مع احدها.
السياسة التي تقوم على أنا وحدي وتتجاهل الآخر، مبنية على تنكر متعمد للتسلسل التاريخي والسياق الصحيح للأشياء. من هم وما هم أسلافه الذين أعادوا «المناطق» حتى ذرة التراب الأخيرة في حين أنه صنع سلاما دون مقابل؟ ولكن ليس فقط أنه كان هناك مقابل معروف للاتفاق مع الإمارات، بل المشكلة هي في الخلط الذي يتجاهل تماما علاقة السلام مع الدول التي حاربناها وقمنا باحتلال أراضيها، مقابل اتفاق تطبيع مع دولة على بعد آلاف الكيلومترات من هنا. كيف استطاع أسلافه أن يضيعوا سر الكيمياء المدهش الذي قام بحله، عندما جاؤوا لصنع السلام مع مصر ومع سورية أو مع الفلسطينيين وعرضوا أن يعيدوا لهم أراضي؟ من يعيدون كتابة التاريخ يعتمدون على ذاكرة الآخر القصيرة، حيث عرض نتنياهو نفسه السلام مقابل جميع الأرض على السوريين في ولايته الأولى، وأيضا على الفلسطينيين في العام 2014.
لا يتعايش التاريخ بسلام مع المدى القصير. أحداث لامعة كثيرة خفتت. على سبيل المثال، انتخاب باراك اوباما لرئاسة الولايات المتحدة اعتبر في حينه حدثا تاريخيا مؤسسا، الى درجة أنه حصل على جائزة نوبل للسلام بعد بضعة اشهر على انتخابه، وفعليا بفضل انتخابه فقط. في المقابل، انتخاب دونالد ترامب اعتبر خللا محرجا. مع ذلك، بصمات ترامب على التاريخ ستكون بلا شك كبيرة بدرجة أكبر من بصمات اوباما. كان انتخاب اوباما حدثا ثوريا بسبب لون جلده، لكن رئاسته لم تكن ثورية أبدا. رئاسة ترامب، في المقابل، هي رئاسة غيرت نظام العالم بخصوص مكانة أميركا في النسيج العالمي. الانعطافة الانفصالية لإدارة ترامب حتى أمام حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا والناتو، سياسة العقوبات كبديل عن الحرب مع إخراج الجيش من ساحة الحرب لسلفه، الحرب الباردة التي تتطور مع الصين، سياسة عدم العولمة التي يقودها الرئيس، ولا يقل عن ذلك أهمية النموذج الاستبدادي - الشعبوي الذي يعرضه على روح كل الفترة. كل ذلك يتراكم ليصبح عمليات بعيدة المدى في مغزاها. السلوك الشخصي للرئيس يمنع كارهيه من أن يروا النظرية المرتبة والثورية التي يعمل بحسبها.
يتحدثون عن زعيم الصين، شو انلاي، الذي عندما طلب منه بعد مرور 200 سنة على الثورة الفرنسية أن يقدر مغزاها التاريخي أجاب: «ما زال الوقت مبكرا على قول ذلك». شايكا اوفير، من اعظم الفنانين في إسرائيل في كل الأزمان، كان اكثر واقعية. «تاريخ»، قال في إحدى مسرحياته، «هذا ربما كان مئة سنة». ولكن بالطبع، لا يدور الحديث حقا عن منافسة على عدد السنوات التي تعطي منظورا تاريخيا لحدث معين. يدور الحديث بصورة فيها لغة الصور المتلاعبة في تعريف السياسة تميل الى تشويه الواقع، وتعمل ضد استقلالية الفرد وتمنعه من رؤية الأشياء كما هي بالفعل. هكذا هو الأمر بالأحرى بخصوص سياسة «الأنا» وغيري لا شيء. لرئيس حكومة، بالأساس كهذا مع حضور طاغ مثل نتنياهو، هناك مسؤولية زائدة في توجيه الحوار العام، وهو متحمس جدا للحصول على مكان متميز في قاعة مشاهير التاريخ، حتى لو كان هذا يعني نفي سياسة أسلافه وتغييبا ذاتيا محرجا، وهو في النهاية سيدخل إليها بفضل تحويله الخطاب الديمقراطي الى ارض محروقة.

عن «هآرتس»