20 عاماً على الانتفاضة الثانية: إسرائيل تحركت يميناً، السلام ابتعد كثيراً

حجم الخط

بقلم: عاموس هرئيل



تصادف، اليوم، الذكرى العشرون لاندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، في ذروة فترة يمكن أن نجد تشابهاً معيناً بينها وبين أيام الذعر والقلق للحافلات المتفجرة. أيضا في هذه الأيام الفظيعة ينتشر إحباط عام يرافقه خوف شخصي كبير وتساؤل متى سينقضي كل ذلك؟ الظروف بالطبع مختلفة كليا؛ يجدر مع ذلك التذكير بأن معظم الأموات من فيروس كورونا هم أشخاص كبار نسبياً (الأطفال تقريبا لا يموتون بسببه)، في حين أن «المخربين الانتحاريين» استهدفوا دون تمييز كل الأعمار وكل شرائح السكان.
في نظرة إلى الوراء، من زيارة أرئيل شارون إلى الحرم وحتى الانفصال عن قطاع غزة (نقطة البداية الفعلية لتلك الفترة وإحدى نتائجها الرئيسية) تتبلور لدينا عدة استنتاجات:
1- أعادت الانتفاضة تشكيل الخارطة السياسية في إسرائيل. تركت فترة العمليات الكبيرة خلفها نتائج نفسية وسياسية عميقة في أوساط الجمهور الإسرائيلي. وعن هذه السنوات الدراماتيكية كُتبت كتب قليلة، وأنتجت أفلام وثائقية. فترة الانتفاضة لا يتم ذكرها كثيرا في النقاشات العامة في إسرائيل، ولا تظهر، تقريبا، حتى في الأفلام الروائية أو الروايات في العقدين الماضيين. ولكن رواسبها واضحة للعيان. وقد تركت خلفها قلقا كبيرا على الأمن الشخصي، ويبدو أن هذا ينعكس جيدا في أنماط التصويت من انتخابات إلى أخرى.
بدرجة كبيرة يمكن الادعاء أنه هنا يكمن سر النجاح الطويل لبنيامين نتنياهو واليمين. عملية «أوسلو»، التي تم إفشالها بسبب سلسلة طويلة من الأسباب، ظهرت كمنحدر يجب الحذر من تكراره. تقول الرواية السائدة في أوساط الجمهور، إنه في كل مرة انسحبت فيها إسرائيل من «المناطق» بشكل أحادي الجانب أو بالاتفاق (مدن الضفة الغربية في «أوسلو»، وإخلاء جنوب لبنان والانفصال عن قطاع غزة) فإن المنطقة المخلاة استخدمت فيما بعد نقطة انطلاق للعدو من اجل تنظيم هجمات أخرى. وعلى الأقل الى حين نضوج العمليات الجنائية ضد نتنياهو في السنة القادمة، فإن ضمان الأمن الشخصي للمواطن وأبناء عائلته كانت الاعتبار الرئيسي الذي بناء عليه صوت الناخبون.
هنا على سبيل المثال، لم يكن ثمة جواب حقيقي على الندب التي تركتها العمليات الانتحارية. نتنياهو، خلال سنوات من الهدوء الأمني النسبي باستثناء عمليات عارضة في قطاع غزة، نجح في أن يصنف نفسه حامياً كبيراً للإسرائيليين (هذا ما قاله أيضا في المقابلات، أنه يريد أن يتم تذكره في مرآة التاريخ). كراهية العرب والخوف منهم، اللذان ازدادا في ذروة أيام العمليات، تشرح أيضا سلسلة ظواهر طويلة الأمد، من التماهي الجديد نسبيا لمعظم المصوتين الأصوليين مع اليمين وحتى ازدهار منظمات متطرفة وعنيفة مثل «لافاميليا».
إضافة إلى ذلك، إلى جانب الخلافات الأيديولوجية التي منعت التوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين بعد انتهاء الانتفاضة (مستقبل القدس، الحدود، المستوطنات، ومشكلة اللاجئين)، بقيت الأمور على حالها بصورة أساسية: عدم ثقة بارز بين الطرفين، أيضا على مستوى القيادات وعلى المستوى الجماهيري. ربما أنه كان يمكن التغلب على التفاصيل؛ الخوف المتبادل الذي اكتوى بحرائق الانتفاضة بقي على حاله أيضا بعد مرور 15 سنة.
2- دور القيادة. نُشر في الشبكات الاجتماعية مرة أخرى، مؤخراً، فيلم يعود للعام 2005، يهاجم فيه ارئيل شارون، رئيس الحكومة في معظم أيام الانتفاضة، نتنياهو الذي شغل في حينه منصب وزير في حكومته. إلى جانب الازدراء الشخصي بينهما، قال شارون، إنه يحتاج الى «أعصاب حديدية وحكمة» من أجل القيادة. أيضا حول شارون حلقت في تلك السنوات غمامة من الفساد (ابنه عمري قضى عقوبة بالسجن في قضية ورطت أيضا والده). ولكن لا يمكن تجاهل حقيقة أنه شخصيا وجه وحده السياسة الإسرائيلية في تلك الفترة بخيرها وشرها.
كان شارون الشخص الذي اتخذ بنفسه جميع القرارات الحاسمة: قرار العمل في عمق «المناطق» الفلسطينية، في قصبات المدن وفي مخيمات اللاجئين، من أجل وقف آلة الإرهاب من الضفة (كانت الذروة في شن عملية «السور الواقي» في آذار 2002)؛ قطع الاتصال مع رئيس السلطة الفلسطينية، ياسر عرفات (في الوقت ذاته قرار عدم اغتياله رغم تردد طويل حول ذلك)؛ إقامة الجدار الفاصل؛ وفي النهاية الانفصال عن غزة. وما زالت هناك نقاشات مستعرة حول الكثير من القرارات التي اتخذها، لكن تلك كانت حقا قيادة مع «أعصاب حديدية» شكلت وجه الصراع. لم يتحرك شارون مثل الريشة، ولم يغير موقفه في كل أسبوع طبقا لضغوط الجمهور والضغوط السياسية التي مورست عليه.
عملية «السور الواقي» والعمليات التي جاءت في أعقابها خفضت «الإرهاب» إلى مستوى محتمل. قلبت مقاطعة عرفات ضده إدارة بوش، وأملت صعود قيادة فلسطينية اكثر اعتدالاً في السلطة الفلسطينية بعد وفاته، العام 2004. جدار الفصل، رغم أن شارون صمم على مده شرقا على حساب مناطق فلسطينية، أبقى الخط الأخضر أساساً للمفاوضات.
كان الانفصال عن غزة عملية تاريخية، حيث رغم صعود «حماس» والعمليات في القطاع التي جاءت بعدها، قلصت مساحات الاحتكاك بين إسرائيل والفلسطينيين. الادعاء في اليمين وكأنه كان يمكن الحفاظ على مستوطنات «غوش قطيف» مزدهرة وآمنة في قلب وعاء الضغط لغزة، يتجاهل ما حدث على الأرض قبل الانسحاب.
3- بالإمكان مواجهة «الإرهاب». في السنوات الأولى لـ»أوسلو»، وبعد ذلك في بداية الانتفاضة الثانية، طرح بين حين وآخر ادعاء من اليسار يقول، إن الصراع الإسرائيلي ضد «الإرهاب» مصيره الفشل. لأن الفلسطينيين يشنون حربا من اجل حريتهم. ولكن حقيقة أن الفلسطينيين اختاروا صراعا دون حدود – ضد جيش وضد مواطنين، مع استخدام العمليات «الانتحارية» ودون تمييز بين «المناطق» والخط الأخضر – أحدثت، بصورة استثنائية، ما يقارب الإجماع في أوساط الجمهور الإسرائيلي، بخصوص الخطوات الصارمة الواجب استخدامها ضدهم رداً على ذلك.
الانتفاضة، حسب تعبير رئيس الأركان في حينه، شاؤول موفاز، تعتبر «حربا من اجل البيت». في الجيش الإسرائيلي و»الشاباك» اتبعوا وسائل وطرقاً عنيفة تضمنت اغتيالات دون محاكمة وعقوبات جماعية واسعة ومساً (على الأغلب بغير قصد) بحياة مدنيين فلسطينيين أبرياء. تركت هذه الخطوات آثارا وندبا في الطرفين، أيضا لدى جيل من الجنود الإسرائيليين (بعد الحفر في جروح لبنان، سيأتي وقت ما بعد صدمة أيام الانتفاضة). ولكن في نهاية المطاف هم أيضا جعلوا الفلسطينيين يعيدون تقييم خطواتهم.
وريث عرفات، محمود عباس (أبو مازن)، لم يستخدم «الإرهاب» ولم يبرر «الإرهاب» مثل سابقه، وهو حاصل على جائزة نوبل للسلام. بالتدريج، قل أيضا دعم الجمهور الفلسطيني للعمليات «الانتحارية»، سواء بسبب الثمن الذي تم دفعه من خلال الخطوات العقابية الإسرائيلية أو بسبب الردود القاسية التي أثارتها هذه العمليات في الغرب، خاصة بعد الهجمات الإرهابية في 11 أيلول والعمليات في مدن أوروبية في السنوات اللاحقة. لم تعلن «حماس» و»الجهاد الإسلامي» رسميا بأنهما تنازلتا عن هذه الوسائل. ولكن منذ 2006 فصاعدا انخفض استخدام «الانتحاريين» إلى الحد الأدنى.
4 - لم تذهب المشكلة الفلسطينية الى أي مكان. النجاح النسبي لمحاربة إسرائيل       لـ»الإرهاب» لم يحل النزاع مع الفلسطينيين. ايهود باراك، الذي أنهى اندلاع الانتفاضة الثانية نهائياً احتمالاته في البقاء رئيس حكومة، أعلن بشكل علني في تشرين الأول 2000 بأنه «لا يوجد شريك» فلسطيني في أعقاب فشل مؤتمر كامب ديفيد واندلاع العنف. احتفل نتنياهو، فقط في هذا الشهر، بنجاحه بالتوقيع على اتفاقات التفافية مع دول عربية، الإمارات والبحرين، رغم جمود القناة الفلسطينية.
ولكن بالضبط تعلمنا فترة الابتعاد الحالية عن الفلسطينيين أموراً معكوسة. أولاً، في الضفة الغربية، السلطة الفلسطينية شريك صامت لترتيبات أمنية فعالة جداً منذ ما يقارب الـ 15 سنة. وحقيقة أن الضفة لم تشتعل في الوقت الذي حدثت فيه ثلاث عمليات عسكرية تعج بالمصابين في قطاع غزة هي دليل على ذلك. أيضا عندما اندلعت انتفاضة مصغرة من عمليات الطعن والدهس في 2015، فإن الأجهزة الأمنية الفلسطينية ساعدت في النهاية على إنهائها. وفي القطاع، بالتحديد «المخرب»، يحيى السنوار، المحرر في صفقة شاليت، هو الذي يدير نظاما براغماتيا نسبيا لـ»حماس»، والذي يبدو أنه في هذه الأثناء يقف على رأس اهتماماته التخفيف من ضائقة السكان.
في الساحتين الفلسطينيتين اللتين تعملان، الآن، تقريبا بشكل منفصل عن بعضهما، لم تختف مقاومة إسرائيل. وفي كلتيهما رغم عيوب الحكومتين في السلطة وفي «حماس»، هناك لإسرائيل شركاء محتملون لتفاهمات صامتة على المدى البعيد، حتى لو كانت احتمالية التوصل إلى اتفاقات دائمة تبدو الآن في الحضيض.

عن «هآرتس»