معلومات حُجبت في الانتفاضة الثانية: عرفات لم يخطط مسبقاً للعنف

حجم الخط

بقلم: يوسي بن آري


في هذه الأيام تكون مرت عشرون سنة على اندلاع الانتفاضة الثانية. من أصلاً يهتم بذلك؟ فمنذ أشهر كثيرة نحن غارقون في وباء «كورونا»، وفشلنا في وقفه، وهذه إشارة أخرى إلى تدهور إسرائيل وتحللها من قيمها الأساسية جداً كدولة وككيان ديمقراطي. ومع ذلك، كانت تلك سنوات صدمة قاسية يحظر نسيانها. أكثر من ألف قتيل إسرائيلي، وأكثر من ثمانية آلاف مصاب، دون ذكر أربعة آلاف قتيل فلسطيني، وحوالي 32 ألف مصاب. ولكن من يحصي؟ هذه لم تكن أسباباً وجيهة بما فيه الكفاية لفحص الأسباب الحقيقية لتلك الكارثة. من الذي كان مسؤولا عن ذلك؟ لجنة أور تم تشكيلها في تلك الأيام – بحق، في أعقاب موت 11 مواطنا عربيا - إسرائيليا. فلماذا امتنعوا عن تشكيل لجنة للتحقيق في الكارثة الأكبر بكثير؟ أين التناسب؟
المسؤولون عن ذلك، كما يبدو، لن نعرفهم أبدا. يوجد لإسرائيل مواضيع اكثر حدة للانشغال بها، ولا أحد يريد أن يخرج الهياكل العظمية من التابوت (إلا إذا كان هذا يخدم العالم «المزيف» لرئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو).
مع ذلك، يجدر أن نسلط القليل من الضوء على دور الاستخبارات في هذه القضية البائسة، التي ألقت الرعب في كل بيت في إسرائيل، وتركت عائلات كثيرة جدا تحمل ندبها. سأقوم بذلك من وجهة نظر شخص كان مسؤولاً عن الموضوع الفلسطيني في أحد أقسام الاستخبارات الرئيسية في الجهاز، حتى حوالي سنتين قبل اندلاع أحداث الانتفاضة. وعندما وقعت، تم استدعائي من قبل من جاء محلي في تشرين الثاني 2000 من اجل فحص – كنوع من لجنة تحقيق مكونة من شخص واحد – من بادر إلى أعمال العنف في الجانب الفلسطيني، وبصورة اكثر تحديدا: هل كان لياسر عرفات دور في ذلك؟
خلال بضعة أسابيع عزلت نفسي عن كل تأثير خارجي (مع وثائق لمختلف أجهزة المخابرات، محادثات مع محققين ومديرين في هذا المجال وما شابه). عملت بصورة ممنهجة على كل المعلومات الخام، التي توفرت لدى سلطات كل الأجهزة الاستخبارية في الشهر الذي سبق نهاية أيلول 2000.
كان استنتاجي واضحاً: في كل المواد الاستخبارية لم أعثر على أي علامة على تخطيط مسبق للعنف بمبادرة من عرفات، أو بمبادرة آخرين في المعسكر الفلسطيني. العكس هو الصحيح؛ فخلال اليومين اللذين أعقبا الاشتعال حاول عرفات تهدئة النفوس، وخاف من فقدان السيطرة. فقط عندما فهم أن فرض التهدئة يمكن أن يؤدي إلى حرب أهلية وإلى انهيار مؤسسات السلطة وتدمير قوات الأمن وإلى خسارته الشخصية، اختار أن «يركب ظهر النمر»، والانضمام إلى الفوضى العامة.
يبدو أن هذا الاستنتاج الدراماتيكي أصاب بالدهشة (وبصمت) من تسلموا هذا التقرير الإجمالي. يفسر هذا الأمر حقيقة أنه نشر، كما يبدو فقط داخل جهاز الاستخبارات، وهذا أيضا بدرجة جزئية فقط. ولم يبلغ به صانعو القرارات على المستوى الأمني والسياسي. هذا الأمر غير مفهوم في جهاز يتباهى بكونه متنوعاً (تذكرون عِبر الاستخبارات من حرب «يوم الغفران»؟) التي فيها وثائق المخابرات التي تستعرض مجالات داخلية، والتي تصل إلى كل المعنيين رغم أن أهميتها أقل بكثير. فهمتُ أن نتائج تحقيقي لم تناسب الرواية التي سادت في حينه، وكأن عرفات «المخرب» كان هو نفسه المسؤول عن كل آثام الانتفاضة الثانية، وهو المتهم باندلاعها.
منذ ذلك الحين وعلى مر السنين، تم الكشف عن المزيد من المعطيات في هذا الشأن. وهذه المعطيات ببساطة لن تصدق: تبين أن رئيس «الشاباك» في حينه، آفي ديختر، ونائبه، يوفال ديسكن، ورئيس الاستخبارات العسكرية، عاموس ملكا، قدروا الأمور بالضبط مثلي. أيضا هم اعتقدوا أن عرفات لم يكن هو الذي قلب صحن «أوسلو» على وجهه. من المهم أن نذكر بأنه في تلك الأيام أدار رئيس الولايات المتحدة في حينه، بيل كلينتون، بنفسه مجموعة عمل مشتركة، إسرائيلية – فلسطينية، في واشنطن في محاولة لحل المشاكل التي بقيت مفتوحة في الاتفاق الدائم، حتى أنه عرض اقتراحه لذلك («خطة كلينتون»، التي نشرت في كانون الأول 2000). أيضا للفلسطينيين، وعلى رأسهم عرفات، كانت هناك مصلحة في نجاح جهود كلينتون. سياسته هذه، وهي محاولة العودة إلى المسار السياسي بدلا من مسار الدماء، اتضحت أيضا في نهاية العام 2001 عندما هدّأ ما يجري على الأرض، الى أن قلبنا الأمور رأسا على عقب عند تصفية رائد الكرمي.
أعطي صدى واضح لرؤية الاستخبارات العسكرية في وثائق المخابرات التي نشرت من قبل القسم الفلسطيني في لواء البحث والتحقيق، الذي أداره في حينه العقيد افرايم لافي. صحيح أنه حارب مثل اللبؤة، لكن صوته الذي عبر عنه بالأساس بشكل خطي، لم يسمع قويا بما فيه الكفاية، في الوقت الذي هدرت فيه أقوال قائده العميد عاموس جلعاد، رئيس اللواء. جلعاد هو ضابط مهيمن ولديه حضور، تساوق مع الرواية المعاكسة (في فترة رئيس الحكومة ايهود باراك: «لا يوجد شريك»، في فترة ارئيل شارون: «عرفات قاتل»)، قام بترديدها، وبهذا «مسح» الأصوات الاستخبارية الأخرى.
منذ تعييني ضابط استخبارات أوضح لي كم هو مهم الحفاظ على الاستقامة المهنية وقول ما اعتقده بالضبط دون مواربة. قضية «الملازم بنيامين سيمنطوف»، الذي حذر من حرب «يوم الغفران»، بما فيها من حقيقة وما حيك حولها من أساطير، أبرزت ذلك. ومنذ ذلك الحين كانت علامة فارقة في طريق التعليم لكل متدرب تدرب في قاعدة تدريب المخابرات 15.
لهذا يصعب تجاهل عبرة من عبرتين: في الانتفاضة الثانية عندما قام أولئك الضباط الكبار بطرح رأيهم - أن عرفات غير مسؤول عن العنف – أمام متخذي القرارات، ورفضوا، كان عليهم «أن يقفوا على أرجلهم الخلفية وأن يدافعوا عن رأيهم». يجب أن نذكر بأن لجنة كهان، التي بحثت في قضية المذبحة في مخيم صبرا وشاتيلا في حرب لبنان الأولى، تشددت جدا مع الجنرال يهوشع ساغي، رئيس الاستخبارات العسكرية في حينه، والذي حسب حكمها امتنع عن الدفاع عن رأيه فيما يتعلق بالكارثة المتوقعة عند دخول الكتائب الى مخيمات اللاجئين. بهذا وضعت معيارا واضحا للاستقامة المهنية المطلوبة. هل رؤساء جهاز الاستخبارات فعلوا ذلك فيما يتعلق بظروف اندلاع الانتفاضة الثانية؟ أشك في ذلك. للأسف هناك دلائل معاكسة بالتحديد، وعلى كل الأحوال، هذا الأمر لم يجد صدى عاما.
وأخطر من هذا بكثير الاحتمالية الثانية وهي أن هؤلاء الضباط الكبار بمعرفتهم لمزاج متخذي القرارات من البداية امتنعوا عن إسماع موقف معاكس، وعن الدخول في مواجهة معهم. من المهم أن أحد الأشخاص، الذين تحدثنا عنهم، ديختر، يثبت في السنوات الأخيرة أنه جندي لبيبي، وربما كان كذلك أيضا في الفترة التي نتحدث عنها. إن صمت نائبه في حينه، ديسكن، يمكن أن نفهمه اكثر (حتى لو لم نقبل به: كما يبدو تعلم عبر رؤوبين حزاك، نائب أبراهام شالوم) من قضية الخط 300. وكان واضحاً له ماذا عليه الالتزام به من اجل الحصول على رئاسة «الشاباك».
ربما يمكن شرح صمت رئيس الاستخبارات العسكرية بالمقولة الساخرة التي سادت في حينه، وبموجبها كان رئيس الاستخبارات العسكرية، عاموس ملكا، هو الملكة. ولكن عاموس جلعاد، رئيس قسم البحث والتحقيق في حينه، كان هو الملك... بالإجمال، من الواضح أن حياة قادة المخابرات الذين سووا صفوفهم حسب صوت سيدهم، كانت أسهل بكثير. ولكن السؤال الذي كان يجب على رؤساء الجهاز في حينه (بالطبع اليوم أيضا) أن يطرحوه على انفسهم، على الأقل مرة في اليوم، وهم ينظرون في مرآة الحلاقة عندما يحلقون في الصباح، كان وما زال «أين أقف مع النزاهة المهنية الشخصية التي أنا ملتزم بها بحكم منصبي؟». في هذا يبدو أنهم فشلوا تماما. ونأمل أن يفعل من يأتون بعدهم ذلك بصورة افضل.

عن «هآرتس»