الكمامة «قاطرة» الصعود الصيني

حجم الخط

بقلم هاني عوكل

 

على الرغم من التداعيات الكارثية الخطيرة التي تكبدها الاقتصاد العالمي بسبب جائحة كورونا، إلا أن الصين واحدة من الدول القلائل جداً التي تعاملت بنضج مع هذه المشكلة ولم تتأثر كثيراً بأجواء الإغلاق العام للحد من الجائحة، بل شهد اقتصادها نمواً في الثلث الثاني من العام الجاري.
الصين شهدت ركوداً اقتصادياً بعيد ظهور الفيروس وممارسة سياسات الإغلاق العام والتباعد الاجتماعي، وثمة العديد من المصانع التي توقفت مؤقتاً عن الإنتاج، في حين تأثرت حركة بيع الكمامات وتضاعفت أسعارها وشحت في السوقين المحلي والعالمي مع ارتفاع الطلب الكبير عليها.
في خلال أشهر قليلة تمكنت الصين من احتواء «كورونا»، لكن بعد أن وقع «الفأس في الرأس»، وأصبح الفيروس منتشراً على نطاق واسع في العالم، إلى درجة أنه أخلّ بقوة باقتصادات دول متطورة وصاعدة كما هو الحال مع الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا ودول آسيا.
صحيح أن الاقتصاد الصيني تأثر مع بدايات انتشار الجائحة، لكنه سرعان ما تعافى وحقق نمواً بنسبة 3.2 في المئة خلال الربع الثاني من العام الجاري، نتيجة عودة حركة التجارة والتصدير الخارجي، والأهم الطلب المستعجل على المعدات والأدوات الطبية وبالأخص الكمامات.
فقط في غضون شهرين صدّرت الصين إلى العالم 50 مليار كمامة منذ شهر آذار وحتى أيار 2020، ولم ولن يتوقف الطلب على هذه البضاعة المهمة نظراً لحاجة العالم للكمامات، وأكثر دولة يمكنها أن تستجيب للطلب الزائد هي الصين، كما أنها ربما الدولة الوحيدة التي توفر الكمامات بأسعار رخيصة جداً.
هذا يعني أن دولة الكمامات –الصين- هي المحتكر الأول لهذا النوع من المعدات الطبية، وبالتالي هي المستفيد الأول من تداعيات «كورونا»، ومن المرجح أنها ستستفيد لاحقاً مع تصدير اللقاح الذي طورته ومن المحتمل أن يطرح في السوق العالمي خلال الشهرين المقبلين بمبلغ 88 دولاراً.
ثمة سباق رهيب بين الشركات الصينية لإنتاج الكمامات واللقاحات في نفس الوقت، إذ على صعيد إنتاج الأولى هناك ما يزيد على 74 ألف شركة معظمها تأسس بعد الجائحة وتحديداً في شهر نيسان 2020، وهذا لا يمنع من ولادة شركات جديدة لتلبية الطلب على هذه السلعة.
قبل عام لم تكن بكين تنتج أكثر من 5 مليارات كمامة، والآن هناك شركات بعيدة كل البعد عن إنتاج الكمامات، كما هو الحال مع شركة «بي واي دي» للسيارات، التي تعد من أكبر منتجي الكمامات في العالم بقدرة إنتاجية تصل إلى حوالي 5 ملايين كمامة في اليوم الواحد.
بالنسبة للقاح الذي ستكون البلاد من أكبر منتجيه ومستهلكيه، هناك أكثر من 40 مصنعا يعد لإنتاج حوالي مليار جرعة في العام الواحد، في الوقت الذي يوجد فيه 9 لقاحات تُجرّب على البشر حول العالم، 4 منها تخضع للتجارب في المرحلة الأخيرة.
منذ بدايات «كوفيد-19» ومع تحميل دول كثيرة بكين مسؤولية الجائحة، أرسلت الأخيرة ملايين الكمامات إلى الأميركيتين ودول آسيا والشرق الأوسط بحراً وجواً وأوروبا عبر شبكة قطاراتها العملاقة، والطلب الآن لا ينحصر بالكمامات فقط، وإنما بالبدل الواقية وموازين الحرارة.
هناك مساعدات مستعجلة أرسلت مجاناً، لكن في المقابل زادت الصفقات لشراء المعدات الطبية بالمليارات، بما في ذلك الأجهزة المرتبطة بالكشف عن «كورونا»، الأمر الذي خدم الاقتصاد الصيني وحقق توازناً بين قطاعات تنموية وأخرى تعرضت لنكسات الجائحة مثل القطاع السياحي.
ليس المقصد من هذا المقال التغزل بهذه التجربة وتبيان القوة والكفاءة الاقتصادية الصينية في أوج انتشار «كورونا» وفي التصدي للجائحة، وإنما يمكن القول إن بكين اختصرت سنوات المنافسة مع الولايات المتحدة على قمة النظام العالمي، ومن المتوقع أن تكتسح السوق العالمي وتتحول إلى الدولة الاقتصادية الأولى في العالم والأكثر إنتاجاً إذا ظلت تسير على نفس المنوال.  
في الصين هناك أكثر من 775 مليون موظف وعامل صيني حسب إحصاءات وزارة الموارد البشرية والضمان الاجتماعي الصينية لعام 2018، وهذا الحجم الكبير جداً من العمالة الذي يتجاوز عدد سكان الولايات المتحدة الأميركية مرتين، وأكثر من مرة واحدة عدد سكان أوروبا، يوفر طاقة إنتاجية هائلة للعالم.
يوفرها بأسعار رخيصة لأنه يدرك أن الوصول إلى جيوب المستهلكين يستلزم بالضرورة توفير السلع بأسعار مقبولة، والحال أن سعر الكمامات الصينية مثلاً رخيصة ومتوفرة بكثرة حول العالم، ويصعب على أي دولة أخرى منافسة بكين في تزويد الكمامات بأسعار تقل عن 1.5 دولار لخمسين كمامة صينية.
قد تكون مصيبة «كورونا» مفيدة بالنسبة للصين التي تسعى بكل قوة لاستثمار هذا الظرف والمناخ الدولي الصعب للوصول إلى القمة، بالكمامة وغير الكمامة وبمختلف المنتجات الصينية التي تغزو السوق العالمي، وثمة حقيقة ينبغي الوقوف عندها وهي أن العالم بات يحتاج الصين أكثر فأكثر من حاجتها له.