الانزلاق الإسرائيلي الكبير

سويلم
حجم الخط

لا توجد ولا محطة واحدة تثبت أن إسرائيل قد توقفت ولو لمرّة واحدة لتراجع نفسها، وتراجع رؤيتها ومفاهيمها وسياساتها إلاّ من زاوية واحدة ووحيدة، وهي الطريقة أو الأسلوب أو الإجراءات والسياسات التي من شأنها التأكيد والتشديد على نفس النهج والوسائل «الكفيلة» بفرض هذه السياسات بوسائل أكثر شدة وقسوة وأكثر إمعاناً في القمع والتنكيل.
وكلما اكتشفت إسرائيل أن أوهامها تتبخر تخترع لنفسها أوهاماً جديدة بدلاً من مراجعة البيئة التي تولد لديها هذه الأوهام.
منذ أكثر من ثلاثة عقود (هذا على الأقل) وإسرائيل توهم نفسها وتحاول أن توهم العالم من حولها أن القدس باتت العاصمة الموحدة والأبدية لإسرائيل.
وبسبب هذا الوهم الذي هو درب من دروب التمنّي أمعنت إسرائيل في الاستيطان، وأنفقت مليارات الدولارات على ما اعتقدت أنه سيؤدي في نهاية المطاف إلى تكريس الأمر الواقع وتحويل المدينة إلى مدينة واحدة وموحدة.
ومع أن العالم من حولها لم يعترف لها بذلك ومع أن أقرب المقربين منها وإليها لم يصل بهم الأمر إلى الاعتراف بهذا الوهم أو اللهاث وراء هذا السراب إلاّ أن ذلك لم يغيّر في المحاولات الإسرائيلية شيئاً ولم «يزحزح» قاداتها وأحزابها ولا الجمهور الإسرائيلي قيد أُنملة عن «العيش» في هذا الوهم والتصرّف وكأنه أمر واقع لم يعد بمقدور «أحد» تغييره.
ومن أجل استكمال كامل صورة ومشهد الوهم استجلبت إسرائيل عشرات آلاف المستوطنين المتدينين باعتبار أن التوحيد والتهويد يستحيلان بدون هؤلاء.
وما ينطبق على القدس ينطبق بهذا القدر أو ذاك على الضفة، فالوهم هو الوهم، والسياسات هي السياسات، والتوغل في الوهم لا يولّد إلاّ مزيداً من الأوهام.
وبدلاً من أن ترى إسرائيل الواقع من حولها، وخصوصاً الاعتراف الدولي بدولة فلسطين، وبدلاً من أن تستخلص إسرائيل العبر من هذا الحصار الشعبي العالمي لها والتحولات الكبيرة والهائلة التي يشهدها العالم على المستوى الرسمي في مواجهة السياسة الإسرائيلية فإن التوغل في الأوهام هو سيّد الموقف ولا شيء غير هذا الموقف.
تعتقد إسرائيل أن «وهمها» سيتحول إلى حقيقة طال الزمن أم قصر وهي تزيّن لنفسها الأمر اعتماداً على هشاشة الوضع الفلسطيني وعلى دمار الإقليم العربي وعلى عجز المجتمع الدولي حتى الآن عن ردعها.
الحقيقة أن ما زينته لنفسها هو بالذات مصدر الأوهام.
صحيح أن الوضع الفلسطيني ينطوي على الكثير من مواطن الهشاشة والضعف، وخصوصاً لجهة الانقسام الذي كاد يودي بكل مشروعنا الوطني، وصحيح أن الوضع في الإقليم العربي هو وضع كارثي بكل المقاييس، وعلى الرغم من عجز وأحياناً تخاذل المجتمع الدولي عن اتخاذ سياسات وإجراءات رادعة ضد إسرائيل إلاّ أن القراءة الإسرائيلية لهذا الوضع هي قراءة أقرب إلى منطق الاستشراق.
وحدهم الفلسطينيون هم القادرون على قراءة الوضع. ووحدهم من يعرف ما يترتب على قراءتهم.
هنا بالضبط وهنا بالذات تتجلى عبقرية الفلسطيني. وبسبب حالة الهشاشة التي أنتجتها مرحلة الانقسام وفي ضوء حجم الكارثة التي يمرّ الوضع العربي وشعوراً من الفلسطينيين بهذا العجز وهذا التخاذل الذي لمسه الشعب الفلسطيني في الآونة الأخيرة، وخصوصاً ذلك القدر غير المسبوق في تجاهل فلسطين في جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة، وخصوصاً من قبل الأطراف الأكثر تأثيراً في منظومة المجتمع الدولي، فقد نزل إلى الشوارع بهذا الزخم الكبير وبإقدام لم نشهده إلاّ في مراحل كفاحية ملتهبة.
وسواء استمر هذا الزخم وهذا الإقدام بهذه الوتيرة أو بأقل أو أعلى منها، وسواء كان لهذا الزخم شعار سياسي ناظم أم تأجل هذا الشعار إلى مراحل لاحقة من هذا الزخم وهذا الإقدام فإن الغضب الفلسطيني قد حقق حتى الآن عدة أهدافٍ إعجازية.
القدس اليوم هي أبعد ما تكون موحّدة، وهي أبعد ما تكون عاصمة لإسرائيل وهي منقسمة انقساماً لم تشهده من قبل، والوهم الإسرائيلي على هذا الصعيد مفضوح ومكشوف وكل من يكابر في إسرائيل حول هذه المسألة لا يتلقى إلاّ اللطمات المتكررة مع فارق أن كل لطمة أقوى من سابقتها.
وقفة المقدسيين هي أساس هزيمة وهم العاصمة «الموحدة والأبدية» وإسرائيل لا تملك للاستمرار في «عيش الوهم» سوى المزيد من القمع وهو الأمر الذي سيؤدي حتماً إلى تبدّد الوهم كلياً وبصورة نهائية.
وأما حالة الانقسام فقد أصبحت عبئاً معنوياً يقض مضاجع أهل الانقسام ودعاته ومروّجيه، بل يمكن القول بأن المواجهات التي شهدناها ونشهدها وسنشهدها قد حولت المشروع الانقسامي، وخصوصاً «روّاد» مشروع الانفصال إلى مجرّد سماسرة لمقاولين من الخارج ليس إلاّ.
لقد تجسّدت وحدة الشعب الفلسطيني بصورة لم تخطر ببال الحكومة الإسرائيلية في أسوأ كوابيسها.
أما الإنجاز الإعجازي الثالث فيبدو هو بدوره هاماً للغاية. فقد أعاد هؤلاء الشباب القضية الفلسطينية إلى مكانتها وتحولت قضية الاحتلال وزوال الاحتلال وسياسات الاحتلال إلى أولوية في عدة أيام وما هو قادم أكبر وأهم.
إذا حافظ هذا الغضب الفلسطيني على أعلى درجة ممكنة من السلمية ومن المشاركة الشعبية فإن هذا الغضب سيتحول إلى حالة قادرة على ابتكار آلياتها وصياغة مشروعها السياسي وتحديد مهامها بنفسها وعندما تكون ناضجة بالقدر الذي يؤهلها لذلك.
أما إسرائيل فهي مستمرة في الوهم وتنتقل من وهم إلى آخر لتستفيق ـ ربما بعد فوات الأوان ـ على حقيقة واحدة:
دولة ثنائية القومية واندثار المشروع الصهيوني طال الزمن أم قصر. هذا إذا لم ترغم على التراجع وعلى التسليم بحق الشعب الفلسطيني حقاً وراء آخر أو دفعة واحدة.