بعد أربعة عشر عاما من إجراء آخر انتخابات فلسطينية، يبدو في الأفق اتفاق وشيك بين فتح وحماس على عقد انتخابات تشريعية في وقت ليس ببعيد، يتلوها انتخابات رئاسية. ولكن هذه الانتخابات الوشيكة بدت مشوبة بطابع خاص إن لم يكن مشوها. فقد تواردت انباء مفادها أن حماس وفتح الفريقان الفلسطينيان المتناحران المتنافسان توافقا على الدخول في قائمة واحدة مشتركة مختارة من الفريقين عبر الانتخابات القادمة.
وحتى لا ينسى الكثيرون وقبل أن يبدأوا بتحليلاتهم وتنظيراتهم، نذكرهم بما نص عليه القانون الأساس الفلسطيني الذي يعتبر القانون الأسمى والذي وضع الإطار الرسمي للانتخابات ورسم قواعدها. فقد نصت المادة 48 من القانون الأساس لعام 2003 " ينتخب أعضاء المجلس التشريعي انتخابا عاما حرا ومباشرا وفقا لأحكام قانون الإنتخابات ". وكانت المادة الخامسة من ذات القانون قد اشارت إلى أن " نظام الحكم في فلسطين نظام ديموقراطي نيابي يعتمد على التعددية السياسية والحزبية ".
وتأكيدا لذلك نصت المادة 26 منه على أن " للفلسطينيين حق المشاركة في الحياة السياسية أفرادا وجماعات ولهم على وجه الخصوص الحقوق الآتية:
1- تشكيل الأحزاب السياسية والانضمام إليها وفقا للقانون.
2- تشكيل النقابات والجمعيات والاتحادات والروابط والأندية والمؤسسات الشعية وفقا للقانون. 3- التصويت والترشيح في الانتخابات لاختيار ممثلين منهم يتم انتخابهم بالاقتراع العام وفق القانون ".
وأيد هذه النصوص أو بعضها قانون الانتخابات وقرر أن كل ناخب يمارس حقه في الانتخاب بصورة حرة ومباشرة وسرية وفردية ولا يجوز التصويت بالوكالة. ومن هذه القواعد يتم تشكيل صورة الانتخاب وفقا لقانون الإنتخابات العامة.
بكلام آخر، القواعد الانتخابية لا يقررها فصيل ولا حزب ولا حركة ولا تنظيم، بل يقررها القانون الأساس، ويضع قواعده الدقيقة قانون الانتخابات العامة بكل تفاصيله. ويجب أن تنصاع لقواعده جميع الأحزاب والحركات السياسية التي ستخوض الانتخابات العامة، لا أن تبني وتشكل قواعد وأطرا جديدة ومبتدعة للانتخاب من لدنها وتفصلها على مقاسها. وإلا سنكون أمام صورة مغايرة للانتخابات بين فترة وأخرى وهذا يستدعي تدخلا تشريعيا لتغيير القواعد التشريعية الانتخابية.
الانتخاب حق سياسي مقصور على المواطنين ترشيحا وانتخابا نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وغيره من المواثيق العالمية والإقليمية لحقوق الإنسان. وهو من ناحية موضوعية جوهرية، مفاضلة بين شخصين مرشحين أو أكثر وفقا لاعتبارات كثيرة أهمها عنصر الشخصية، او مفاضلة بين حزبين أو حركتين وفقا لاعتبارات كثيرة أهمها مبادىء كل منهما. ويقوم المواطن الفرد بالموازنة بين الاثنين ويختار أحدهما أقرب لرأيه أو فلسفته أو قرابته أو بسبب عشيرته أو قبيلته أو ماله او لونه أو أي اعتبار آخر. فالمواطن له كامل الحق في أن يختار مرشحا ويصوت له دونما أي تأثير خارجي. ويتم الاختيار اي الانتخاب للمرشح ترجمة لوعوده السياسية أو الاجتماعية أو الضريبية أو العمالية على أرض الواقع. ومن هنا تتميز كل حركة أو حزب بوضع برنامج انتخابي من أجل محاسبته فيما بعد على كمّ النقاط التي ترجمها لأفعال في المجتمع ولإعادة الانتخاب من عدمه للفصيل أو الحركة حتى لا يكون الجمهور مطية انتخابية لأي منها.
هذا الحق السياسي المتمثل في الانتخاب غدا هذه الأيام السند الشرعي الوحيد الأساسي لأية سلطة سياسية بل تستمد شرعيتها من صندوق الاقتراع. فلم تعد القوة والانقلاب العسكري أسلوبا مقبولا للشرعية السياسية. وكذلك هو الحال مع المال السياسي بل غدا فسادا يحارب في قطاعات كثيرة كتبييض الأموال. ولم تعد القبيلة والعشيرة والأسرة دربا مشروعا للوصول للسلطة السياسية. حتى نظرية الحق الإلهي المباشر وغير المباشر والعناية الإلهية، لم تعد وسيلة ديموقراطية لإسناد الشرعية.
بقي الانتخاب الحر الدوري السري الوسيلة الوحيدة لإسناد الشرعية السياسية والاجتماعية سواء على مستوى الرئاسة أو على مستوى البرلمان أو على نطاق البلديات والنقابات والجمعيات والأندية. وغدا التعيين مرفوضا مناقضا للانتخاب، بل وسيلة غير ديموقراطية أوتوقراطية.
فالانتخاب وسيلة شرعية ديموقراطية لإسناد السلطة، بينما يعتبر التعيين وسيلة أوتوقراطية، ذلك أن المعيَّن يرغب في إرضاء من عينه وكسب وده بينما المنتخب يرغب في خدمة من انتخبه عبر كل القطاعات بل يود خدمته بشكل مؤكد وموثوق طمعا في إعادة ترشيحه وإعادة انتخابه في المستقبل. والمعين يسترضي جماعة قليلة العدد في تعيينه أما المنتخب فيطل رضاء الألوف عبر موافقتهم عليه في صناديق الإقتراع.
ومن ثم فإن توافق حركتي فتح وحماس إذا ما تم على قائمة انتخابية واحدة فيه مصادرة لحق المواطن السياسي المتمثل في الانتخاب، فمثل هذه القائمة ستكون بدون منافسة من أية قائمة أخرى. وكأن قيادات الحركتين ألغت الشعب الفلسطيني وأصحاب حق الإقتراع فيه ونصبت وليا شرعيا عليه وصادرت حق الاقتراع الدستوري.
ولتجميل الفكرة وتسهيل قبولها تذكر اسباب وذرائع وحجج تتصل بالنظام العام الفلسطيني ودقة المرحلة الحالية والظروف السياسية، وكأن هذه الأمور طارئة على الشعب الفلسطيني، في حين انها كانت جزءا من ماء وغذاء الشعب الفلسطيني على مر الأجيال.
الانتخاب بهذه الصورة يفقد المجلس التشريعي وظيفته ومهمته التي انتخب من أجلها. فمهمة المجلس التشريعي المعين كالموظف، في محاسبة الحكومة عبر السؤال والتحقيق والثقة سينعدم دوره ويفقد اثره في كل القطاعات التي يفترض أن يمارس دورا بارزا فيها. وبذا يصبح المجلس التشريعي ذيليا وتبعيا للسلطة التنفيذية والحركتين.
ولو تذكرنا المجلس التشريعي الأول والدور الذي أنيط به رغم تزوير الإنتخابات في بعض دوائره، لرفعنا له القبعة على محاسبته الحكومة في كثير من القضايا لا مجال لذكرها في هذه العجالة. يكفي أن نذكر أن الرئيس محمود عباس لم يقدم بيان الحكومة حينما كان رئيسا للوزراء للمجلس التشريعي طلبا للثقة البرلمانية.
الانتخاب بهذه الصورة المشوهة يعيد ذكريات الأنظمة السياسية العربية ونسبة الـ99,99% حينما كانت تلك الأنظمة تطرح الاستفتاء السياسي كبديل للانتخاب في أسلوب مخادع لشعبها، وكأن الإستفتاء هو انتخاب والعكس صحيح، بينما هما أمران مختلفان تماما. ففي الاستفتاء لا يوجد سوى مرشح واحد بينما لا يستقيم الانتخاب سوى في وجود شخصين أو أكثر وانتخاب أحدهما. حتى الاستفتاء على الأفكار فيه نوع من التفضيل المقبول بين فكرتين أو أمرين أو عملين سلبا أو إيجابا.
الانتخاب الحر كان سنّة في النقابات والجمعيات والأندية الفلسطينية والبلديات طيلة عمرها ، لكن الانتخاب السياسي الفلسطيني لم يكن يوما إلا حديثا عرفا وطنيا على مر التاريخ، حتى تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني واجهزة منظمة التحرير الفلسطينية كانت تتم عبر التوافق السياسي وليس عبر الانتخاب الشعبي، وقد يكون ذلك لأمور ظرفية معقدة.
الوصول لسدة الحكم في التاريخ الإنساني بعامة والفلسطيني بخاصة يجب أن يكون عبر الانتخاب، ولا شيء سوى الانتخاب الحر السري المباشر العام غير المقيد الدوري، وترك الشعب يقرر مصيره وحكامه بحرية سواء على مستوى الرئاسة أو على مستوى المجلس التشريعي بدون قيود وعلى أساس المساواة وعدم التمييز.
لنثق بهذا الشعب الذي كابد وضحى، لنترك له قدرا من الحرية السياسية ترشيحا وانتخابا بدون وصاية فلن تتقدم الشعوب بدون ممارسة حقوقها حتى لو أخطأت فمن لا يخطىء لا يفعل شيئا!