«التعليم عن بعد» أم «البعد عن التعليم»

عبد الناصر النجار.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد الناصر النجار

قبل أسبوعين بدأت مجموعة من المعلمين التعبير عن مطالبتها بتحسين أوضاع المعلمين الاقتصادية بالإضراب الجزئي عن العمل، ليتحول ذلك إلى ما يشبه إضراباً شاملاً في عدد من مدارس محافظتي الخليل وبيت لحم بشكل أساسي.
وكما في كل إضراب تم التعامل مع المضربين على قاعدة القمع والتخويف من خلال التصريحات النارية التي يطلقها بعض المسؤولين، الذين كان من الأفضل لهم أن يصمتوا قليلاً، أو أن يختاروا كلماتهم بعناية وبشكل متوازن حتى لا نقع في المحظور.
مع بداية كل إضراب يتهم المعلمون المضربون بأوصاف قد تصل إلى حد الخيانة عند البعض، ثم تتبع ذلك تهديدات بالعقوبات، أبرزها خصم أيام الإضراب من الرواتب التي هي أصلاً غير متوافرة.
في السابق، تم «تأديب» المعلمين الذين شاركوا في الحراك، إما بإحالتهم إلى التقاعد القسري كما حصل في عهد الحكومة السابقة، حيث ما زال المتقاعدون قسرياً يعانون من تنكيل الحكومة السابقة بهم، وهم ومجموعة أخرى من المواطنين الذين اعتبرتهم رئاسة الوزراء في حينه مغردين خارج سربها؟؟!
مسؤولون في وزارة التربية والتعليم أطلقوا مؤخراً تصريحات غريبة بحق المضربين، الأمر الذي زاد من حدة الغضب حتى في صفوف المعلمين غير المضربين، ووضع اتحاد المعلمين في موقف حرج جداً على الرغم من محاولته اللعب، قدر الإمكان، على حبل التوازن بين مطالب الوزارة والمعلمين.
في أمثالنا الشعبية كان يقال: «مجنون برمي حجر في بير ومية عاقل ما برفعه»، وهذا ما حصل مع التصريحات العدائية منذ البداية.
كان بالأحرى الاستماع إلى مطالب المعلمين ودراستها والبحث بجدية عن سبيل للخروج من المأزق، وعلى سبيل المثال إذا كان المعلم لا يمتلك أجرة المواصلات للوصول إلى مدرسته، فكيف سيبدع؟!! كيف سيوصل المعلومة للطالب، وما هو وضعه النفسي، ولكن في الوقت نفسه كان يفترض بالمعلمين ألا يبالغوا في المطالب وألا يتخذوا إجراءات أحادية فردية تنعكس سلباً على الوضع التعليمي شبه المنهار.
منذ جائحة كورونا في بداية العام الجاري والمدارس شبه معطلة، والبناء التربوي يعاني خللاً كبيراً، ومع استمرار الجائحة التي كان يعتقد أنها ستختفي مع انتهاء الشتاء الماضي، يمكن القول إن التعليم أصبح في أسوأ حالاته.
ظهرت محاولات لتعويض الطلاب عبر التعليم عن بعد، سواء من خلال منصات إلكترونية أو من خلال برامج تلفزيونية تعليمية، إلا أن الحقيقة المرّة هي أن نتائج هذا التعليم وفق شهادات كثير من المعلمين وأولياء الأمور كانت صفراً.
طلابنا متعودون على مسار تعليمي يقوم على الوجاهة والتلقين في كثير من الأحيان، والمعلم الذي يشرح ساعات في اليوم، يكون أمامه تحد كبير لخلق تفاعل داخل غرفة الصف، فكيف هو الوضع في ظل أن أكثر من ثلثي الطلبة، لا يمتلكون حواسيب تمكنهم من التعلم عن بعد، ولا توجد في منازل العديدين حتى خطوط إنترنت، والأخطر أنهم طوال سنوات تعليمهم لم يعرفوا هذا النمط من التعلم.
وعند سؤال عدد من الطلبة حول مدى استفادتهم من التعلم عن بعد، كانت إجابات الغالبية العظمى منهم بالتأكيد أنهم لم يستفيدوا شيئاً، حتى إن طلبة في المرحلة الثانوية أكدوا أنهم نسوا كثيراً من معلوماتهم المتراكمة. حتى طريقة التقييم أيضاً أصبحت غير ذات صلة مع الواقع التربوي، كما أن التعليم الجامعي أيضاً يعاني الأمرين.
قبل أسبوع كنت أستمع إلى محاضرتين عن بعد لطالب وطالبة، الطالب كان في سيارة وهو يسمع إلى المحاضرة، وكنت أستمع ولم أفهم شيئاً مما يقوله مدرس المادة، فسألته: هل استوعبت شيئا؟ فقال: بصراحة لا.
ألا يلاحظ هنا أنه لا يوجد أي تفاعل مع الطلبة، علاوة على تشوش الصوت وانقطاعات الكهرباء والإنترنت، والسؤال هل هذا هو التعليم عن بعد الذي يروج له البعض؟!!
الطالبة أيضاً كانت تجلس في ساحة مستشفى وهي تستمع إلى المحاضرة، فتساءلت: ما هي نسبة الإصغاء الحقيقية لهذه الطالبة؟ وما هي نسبة الفائدة الحقيقية التي تلقتها؟
بصراحة التعليم عن بعد كارثة تمشي على قدمين، لأنه لا توجد لدينا البنى التحتية المؤهلة لتعليم كهذا، والمعلمون غير مؤهلين لهذا الشكل المستحدث، وطلبة المرحلة الأساسية الدنيا خاصة طلبة الصف الأول والثاني ليست لديهم قدرة على التفاعل عن بعد.
أمام هذه الجائحة التعليمية الجديدة مطلوب من وزارة التربية النزول قليلاً عن شجرة التهديد، والاستماع إلى مطالب المعلمين والاتحاد، وفتح حوار متواصل وبناء، من أجل تقاسم الأعباء ورغيف العيش في ظل الوضع الاستثنائي، والحصار المفروض علينا من كثير من الدول الشقيقة والمعادية على حد سواء.
لا بد من الوصول إلى حد أدنى مشترك من الاتفاق. نعم، لا يمكن لمعلم لا يمتلك أجرة المواصلات أن يلام إذا أضرب، ولكن المطالب النقابية التي تطرح اليوم بصيغة سابقة أيضاً غير معقولة، وتواجه حتى رفضاً مجتمعياً. ربما الحلول الوسط المتمثلة في إخراج المعلمين من مأزقهم المالي هي الوسيلة الأفضل لعودة الحياة التعليمية إلى مسارها.
أما بالنسبة للحكومة، فإن مما لا شك فيه أن قطاعي التربية والتعليم والصحة يجب أن تكون لهما الأولوية، ويجب أن تكون هناك استثناءات خاصة، في ظل جيش من الموظفين العموميين يمكن القول إن نسبة عالية منهم يمكن أن يعملوا عن بعد ولا نريد أن نزيد في هذا الموضوع لأن اللبيب بالإشارة يفهم، أما معلم المدرسة فهو عمود أساسي في خيمتنا الوطنية والنضالية.