أوقات قضيتُها بصحبة رابين

حجم الخط

بقلم: يوسي بيلين


كان لقاؤنا الأول من طرف واحد. وقد جرى في الأيام التي لا تنتهي من الانتظار، قبل حرب «الأيام الستة». كنت نفراً، مع لواء 8 بقيادة البرت ماندلر، الذي انتشر في صحراء فاران، على حدود سيناء. لم تكن لنا فكرة عما يحصل. تلقينا ثلاث مرات امرا بطي شبكات التمويه، وثلاث مرات أمرونا بنشرها من جديد. سمعنا «خطاب التلعثم لليفي اشكول، في الترانزستور الذي اشتراه أبي لي، وحاولنا أن نتشجع بسماع تحليلات حاييم هرتسوغ، ولكن كانت هذه أياما طويلة من انعدام اليقين وانعدام الفعل. وعندها انتقل، من الفم الى الاذن، النبأ بأن رئيس الاركان اسحق رابين سيزور مقر قيادة اللواء.
لم يطلبوا منا المشاركة في طابور خاص أو في أي احتفال. ربما بسبب الانضباط في استخدام الماء والذي منعنا من أن نحلق ذقوننا التي نمت. وربما لأنه لم يكن يستطيب الاحتفالات. أتذكر أننا وقفنا قرب مركبة الاتصال ورأينا رابين عن مسافة غير قصيرة، يعتمر قبعته، ويدخل خيمة القيادة. أتذكر الإحساس بان هناك احدا ما يعرف عنا، يعرف ما يفعل ويمكن الثقة به. ولعلنا رغبنا جدا في أن نؤمن بأنه يوجد أحد ما كهذا. في العام 1973 عاد من واشنطن، بعد أن أنهى ولايته سفيراً. كنت في حينه صحافيا في «دافار»، وأرسلت لمقابلته انطلاقا من التقدير بأنه سيحل في مكان واقعي في القائمة للكنيست التالية. كانت لغولدا محبة خاصة تجاهه، وصلت الى بيته في تسهلا، وأردت أن أقف عند فكره في مجالات الدولة والمجتمع. وقد أجرى هو المقابلة الصحافية وكأن على رأسه الشيطان. بعد سؤال او اثنين، طلب مني قائمة الأسئلة في دفتري. هذا لم يحصل لي ابدا، ولم أعرف كيف أرد بالضبط، ولكن في نهاية الامر أطلعته عليها. فبعد كل شيء، كان هو الرجل صاحب القبعة الذي زار لواء 8.
مر رابين على الأسئلة، أعاد لي الدفتر وقال لي: «الأسئلة غير جيدة. اعتقدت أن معنى الامر هو أنه لن تكون المقابلة، ولكنه أجاب عنها جميعها. في الموضوع السياسي لم يكن لديه حسم في اتجاه الحمامة أو الصقر، ولكن في المجال الاجتماعي تحدث كزعيم جمهوري أميركي بكل معنى الكلمة. أعرب عن رأي واضح للغاية ضد مس الاتحاد المهني بالسوق الحرة، انتقد النفقات المالية على المخصصات الاجتماعية وما شابه من أمور.

أراد السير في طريق بيغن
لم تكن ثمة محبة بيننا، فلم أحب استخفافه العلني بالأشخاص وبالجماعات. الألقاب التي أغدقها عليهم تعرضت أنا ايضا لها، وعارضت الكثير من مواقفه السياسية. معظم الخلافات بيننا كانت علنية. في العام 1987 وجدنا أنفسنا نتناكف في موضوع العقوبات الأمنية والاقتصادية على جنوب افريقيا (الابرتهايد)؛ بعد سنة من ذلك اصطدمنا في موضوع إقامة الحكومة الجديدة في اعقاب الانتخابات: فقد فضل، بالقطع، حكومة مشتركة مع «الليكود» برئاسة شامير بدون تناوب، وطلبتُ تشكيل حكومة برئاسة بيريس، وبمشاركة الأصوليين. في العام 1994 كانت بيننا مواجهة على خلفية دعوتي لقيادة يهود أميركا وقف تحويل المبلغ الصغير نسبيا مما يجمع من أموال الجباية وتكريس المال لما سمي بعد ذلك مشروع «تجليت». في 1995 اصطدمنا على معارضته القاطعة لمطالبتي الغاء قانون الانتخاب المباشر لرئاسة الوزراء.
خلافاً لم ينشر في حينه، كان يرتبط بمسألة هل نواصل مسيرة أوسلو نحو اتفاق انتقالي او التوجه مباشرة الى الاتفاق الدائم. بعد ان وافق رابين على ان نواصل المفاوضات غير الرسمية التي جرت في أوسلو مع ممثلي «م.ت.ف» اقام محفلا رباعيا أدار هذه المحادثات وضم، إضافة اليه، وزير الخارجية في حينه، شمعون بيريس، انا، والقانوني يوئيل زنجر. في مرحلة معينة طرحت على رابين، في هوامش اللقاء الأسبوعي، اقتراح ان نترك جانبا الجهد الكبير للوصول الى تسوية انتقالية وننتقل الى محاولة الوصول، منذ الآن، الى تسوية دائمة، على خلفية النزعة البراغماتية التي تبينت لنا في الجانب الفلسطيني. أعربت أمامه عن التخوف من أنه في السنوات الخمس للتسوية الانتقالية ستكون هناك مساحة يستغلها معارضو الاتفاق من على جانبي المتراس.
عارض رابين ذلك بشدة، وقال انه يفضل السير في الطريق التي اتفق عليها في محادثات كامب ديفيد في 1978، انطلاقا من التقدير باننا اذا سرنا في طريق شقه مناحيم بيغن، فستكون شرعية اكبر للاتفاق الذي سنتوصل اليه. وأضاف الى ذلك حجة ثانية وبموجبها اذا بدأنا بالمفاوضات على اتفاق دائم، ولم ننجح في الوصول الى التوافق، سيكون من الصعب جدا إعادة الطرف الفلسطيني الى طاولة المفاوضات والى التسوية الانتقالية؛ لأنه سيخشى من أنه حتى المحادثات التي ستستأنف ستؤدي في نهاية المطاف الى طريق مسدود، اذا فشلنا، الآن، في المحادثات على التسوية الانتقالية، لن يكون من الصعب جدا العودة اليها حين تتيح الظروف ذلك.

مهرجان في الميدان رغم انفه
ولكن كانت هناك أيضا توافقات غير قليلة، واهمها كان استعداده اجراء محادثات مع «م.ت.ف» بعد سنوات طويلة رفض فيها إمكانية كهذه رفضا باتا. راكمنا الكثير جدا من الساعات معا، في جلسات محافل مختلفة في حزب العمل، وفي جلسات «الكابينت» والحكومة، وفي الجلسات في الكنيست، وفي محادثات في 6 او 8 عيون. في لقاءات سرية وعلنية مع زعماء المنطقة، في محادثات بأربع عيون. في تموز 1995 قرر أن يضم ايهود باراك ويضمني الى حكومته.
عندما التقيته للحديث عن برامجي كوزير للاقتصاد والتخطيط قلت له، ان برنامجي المركزي هو حل الوزارة لاصبح وزيرا بلا وزارة. فضحك وقال، انه لم يسمع ابدا عن برنامج كهذا. قلت له، ان هذه وزارة مصطنعة، أقامها مناحم بيغن، كي يجعل صديقه يعقوب مريدور وزيرا. أخذت دوائر مختلفة من وزارة المالية ومن ديوان رئيس الوزراء، وأقيمت وزارة زائدة، وحده من وقف على رأسها وكان قادرا على أن يتخلى عن وجودها.
طلبت موافقته المبدئية على الخطوة كي ابدأ بإعادة الدوائر الى الوزارات ذات الصلة والى ترتيب عمل 63 من الموظفين فيها. تلقيت منه ضوءاً أخضر، ولكنه قال، اعدك يا يوسي بأنك بعد ثلاثة اشهر ستأتي اليّ بطلب علاوة ميزانية كي توسع مجالات الوزارة الحيوية التي تلقيتها. وعندما حلت الوزارة لم يعد بين الأحياء.
لم يستطب رابين فكرة مهرجان السلام في ميدان ملوك إسرائيل. لم يفهم لماذا تحتاج حكومة ما لهذا الحدث. في الأنظمة ذات الحكم المطلق تجري السلطات تظاهرات في الميادين. اما في أنظمة الحكم الديمقراطية فهذه مهمة المعارضة. اما مؤيدو المهرجان فقالوا له، انه في ضوء التظاهرات الكبرى التي يجريها اليمين ضد مسيرة أوسلو، يتعين على معسكر السلام ان يقول كلمته، وان يسمع صوت رئيس الوزراء. خشي رابين من أن يكون الميدان شبه خال، ما سيسيء الوضع فقط.
النهاية كانت مختلفة، بالطبع. كان الميدان مليئا بالناس. وقد تأثر جدا واستصعب إخفاء ذلك. بتعابير رابينية، خرج عن طوره: وافق على أن يغني بضعة أبيات من «نشيد السلام» رغم أنه كان يعرف جيدا ان قدرته على الغناء محدودة. بل إنه عانق بيريس. بعد الاغتيال وجدوا في جيب سترته صفحة عليها كلمات «نشيد السلام» ملطخة بدمه.
على هذا الرجل الخاص، المقاتل في المعركة والمقاتل للسلام، والذي لم تكن بيننا أبدا محبة شخصية، وجدت نفسي أبكي مثلما لم أبكِ عندما ودعتُ أعز أقربائي.

عن «إسرائيل اليوم»