دروس القائمة المشتركة... وآفاق التكامل الفلسطيني

حجم الخط

بقلم: رامي منصور

 

يواجه الشعب الفلسطيني أزمة انعدام مشروع وطني سياسي، أكان شاملًا أم جزئيًا، أم حتى برنامجا سياسيا قصيرا أم متوسط المدى، وذلك لأسباب موضوعية، ولكن ذاتية أيضًا، تحديدًا في ظل قيادة سياسية مهيمنة لم تتبدل منذ عقود، وبقيت عالقة في حسابات ما بعد الحرب الباردة والهيمنة الأميركية أحادية القطبية، وبعد أن وضعت كل رهاناتها السياسية في السلة الأميركية، التي أوصلتها إلى طريق مسدود وجردتها من الخيارات السياسية الجدية.

وتنعكس هذه الأزمة، انعدام المشروع الوطني السياسي، على المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، أو ما يعرف بـ"عرب 48" أو فلسطينيي الداخل، على الرغم من أن هؤلاء قدموا نموذجًا انتخابيًا وحدويًا وهو القائمة المشتركة لخوض الانتخابات البرلمانية في إسرائيل. ويعتبر فلسطينيون كثر أن ذلك سابقة مهمة، على الفصائل الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة اتباعها في ظل الأحاديث عن إجراء انتخابات برلمانية في السلطة الفلسطينية بتوافق فتحاوي – حمساوي. كذلك صدرت دعوات لتشكيل قائمة مشتركة تضم فصائل مختلفة وتحديدًا أكبر فصيلين، لخوض الانتخابات الفلسطينية المرتقبة. وهنا لا بد من تسليط الضوء على تجربة القائمة المشتركة في الداخل، التي بمقدورها أن تكون رافعة للعمل السياسي الوطني الوحدوي.

لكن على النقيض، قد تكون هذه القائمة مجرد أداة للوصول إلى البرلمان مثل أي قائمة انتخابية تحالفية في العالم، لا تُترجم إلى قفزة نوعية في العمل السياسي الوطني، وللتورية على عدم قدرة مركبات المشتركة الحزبية على طرح برنامج سياسي، بالحد الأدنى المشترك، يشكل بوصلة لأهداف المرحلة السياسية أو بمثابة خطة عمل سياسية ووطنية في المدى المنظور.

ومن مراجعة تجربة القائمة المشتركة في السنوات الأخيرة، يظهر لنا بشكل واضح أنها لم ترتق بالعمل السياسي والوطني، لكنها أخمدت نيران المناكفات والصراعات الحزبية البينية، غير أنها لم تلغ الصراعات الحزبية الداخلية. كما أنها أطلقت منافسة غير صحية بين نواب المشتركة ذاتهم، على اختلاف انتماءاتهم الحزبية، وعززت العمل الفردي بدلا من تعزيز العمل الجماعي، والبحث عن النجومية في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، ولم تقدم برنامجًا سياسيًا بحده الأدنى، واختصرت شعارها السياسي بإسقاط بنيامين نتنياهو من خلال التوصية على بيني غانتس، ومع إخفاقها بذلك، بدت القائمة المشتركة كأنها مجرد تحالف انتخابي، غير قادر حتى على التأثير في لعبة موازين القوى بين محاور الإجماع الصهيوني في الكنيست، وبلا قيمة حقيقية لها لأنها بلا برنامج أو مشروع سياسي، سوى الوصول للكنيست.

وحصل ذلك على الرغم من أن فكرة تشكيل قائمة عربية مشتركة أساسًا كانت جزءًا من تصور شامل لتنظيم الفلسطينيين في الداخل في مؤسسات وأطر قومية جامعة لمواجهة سياسات المؤسسة الصهيونية ضدهم، ولتعزيز بقائهم وصمودهم في وجه مشاريع الأسرلة والصهينة، ولتنظيم المجتمع على أسس حداثية متطورة ومتقدمة، تنفي العائلية والحمائلية والعشائرية، وتوحدهم على الانتماء الوطني والقومي العربي. لكن ليست جميع مركبات المشتركة رأت ذلك على هذا النحو، بل إن بعضها كان يعارض هذه الوحدة القومية على اعتبار أنها انعزال وانغلاق قومجي، لكنها سلمت بالأمر الواقع بعد رفع نسبة الحسم في الانتخابات البرلمانية.

لذا، ليست الوحدة الفصائلية في قائمة انتخابية فضيلة بحد ذاتها، إذا لم تكن قائمة ومؤسسة على برنامج سياسي وخطة عمل مشتركتين حتى على المدى المنظور، لأنها دون ذلك ستتحول من رافعة في العمل الوطني، إلى وسيلة لإدارة الخلافات الفصائلية، وسيكون بمقدور أي طرف فيها تعطيل الحياة البرلمانية عند أول اختلاف في أبسط المواقف. والخطورة أيضًا، بأن يحاول أي فصيل فرض برنامجه أو رؤيته السياسية على باقي الفصائل في القائمة ذاتها، إذا لم يتم بشكل علني ومنذ اللحظة الأولى الاتفاق على برنامج سياسي واضح المعالم، يوفر الحد الأدنى لما تتفق عليه الفصائل.

فليس المطلوب وحدة تقنية لتجاوز نسبة الحسم في الانتخابات، ولا إطارًا جديدًا لإدارة الصراعات الفصائلية، بل المطلوب هو إطار سياسي يجمع الفصائل المختلفة على قضايا سياسية تخص ساحة عمل هذه القائمة، وليس إطارًا فلسطينيًا شاملًا تتفق فيه الفصائل على رؤيتها للصراع أو حله. وليس مطلوبًا أن تخفي هذه القائمة التباينات السياسية أو الأيديولوجية الحزبية أو الفصائلية.

تغيير قواعد اللعبة

ارتكز النشاط السياسي والنضالي للفلسطينيين في إسرائيل على حقوقهم الفردية والجماعية – أو السعي لتحقيق الحقوق الجماعية - التي توفرها المواطنة الإسرائيلية، حتى لو كانت مواطنة استعمارية، لأنها وفرت هامشًا ديمقراطيًا برلمانيًا استطاع الفلسطينيون في الداخل عبر أحزابهم طيلة عقود المناورة فيه سياسيًا، واستغلال اللعبة الديمقراطية – بالمعنى الإيجابي – لتحدي النظام الصهيوني وتعريف إسرائيل لنفسها دولة يهودية. وكان هذا النضال في حدود المواطنة جزءًا من المشهد الفلسطيني العام لكنه تميز بخصوصية أنه يأتي في إطار القانون الإسرائيلي بسبب المكانة القانونية للفلسطينيين في إسرائيل، أي الدولة المحتلة، خلافًا لنضال باقي الشعب الفلسطيني على اختلاف أماكن تواجده، سواء بالكفاح المسلح أو حتى بالمفاوضات، إن جاز اعتبار الأخيرة نضالًا.

لذا، بقي سقف الخطاب السياسي في الداخل مرتبطًا بالأرضية التي ينشط عليها، أي المواطنة الإسرائيلية والقانون الإسرائيلي، واعتبر نضاله نضالًا حقوقيًا بالأساس، لتحقيق المساواة بين كافة المواطنين، فيما النضال الفلسطيني بالخارج هدف إلى التحرير والعودة إلخ...

وتمكن المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل طيلة أكثر من سبعة عقود من إيجاد وإتقان النضال حتى داخل المواطنة الإسرائيلية وتحديها وتوسيع مجالها، الذي بدأ بتعزيز الصمود حتى لو من خلال المطالبة بتحصيل المواطنة الإسرائيلية للبقاء في أرضهم في السنوات التي أعقبت النكبة، وانتقلوا لاحقًا إلى مطالب أكثر جماعية وأكثر تحديًا لهوية الدولة أو جوهرها، مثل المطالبة بالاعتراف بهم كأقلية قومية، أو المطالبة بحكم ذاتي ثقافي وغيرها من الحقوق الجماعية وصولًا للمطالبة بدولة لجميع مواطنيها.

كان ذلك شرعيًا، حتى لو كان غير مقبول على الإجماع الصهيوني والمؤسسة الإسرائيلية، حتى الانتفاضة الثانية عام 2000، التي التحق خلالها الفلسطينيون في الداخل بالمظاهرات الشعبية التي انطلقت في أنحاء فلسطين. رغم ذلك، ظل الأمر متاحًا إلى حد ما على الرغم من الملاحقات السياسية لقيادات وأحزاب في الداخل، وصلت إلى حد اعتبار المطالبة بدولة جميع مواطنيها بدلًا من الدولة اليهودية كفعل تآمري ضد أسس الدولة، كما صرح رئيس جهاز الشاباك في العام 2007، يوفال ديسكين.

في العام 2018، شرع البرلمان الإسرائيلي "قانون القومية" الذي يعتبر أن اليهود لهم الحق القومي الجماعي الحصري في فلسطين من البحر للنهر، وشدد على تعريف إسرائيل كدولة يهودية ومن ثم ديمقراطية، وألغى الاعتراف باللغة العربية لغة رسمية إلى جانب العبرية، ولم يتطرق بتاتًا إلى المساواة بين المواطنين في الدولة.

هذا القانون وحد فلسطين كوحدة سياسية وأنها تقع تحت نظام واحد ولكن بأساليب مختلفة ودرجات متنوعة ولكنها من النوع ذاته، القائم على التطهير العرقي والاستيطان الاستعماري والفصل العنصري. ومن خلال تشريع قانون يوجز أهداف المشروع الصهيوني في فلسطين، ويترجمها إلى لغة قانونية أو دستورية، ويتعامل معها على أنها أمر واقع، وهو عمليًا أزال الخط الأخضر. أي أن إسرائيل غيرت قواعد اللعبة مع مواطنيها الفلسطينيين تحديدًا، ومن المتوقع أن يواجه هذا التغيير بتغيير وبإستراتيجية جديدة ترى بالنضال الفلسطيني في كل فلسطين نضالًا مشتركًا ضد نظام واحد يحكم البلاد من النهر للبحر وإن اختلفت أدواته.

كيف تنعكس إزالة الخط الأخضر والتعامل مع فلسطين كلها كوحدة سياسية واحدة بنظر إسرائيل على نضال الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل وفي الضفة والقطاع؟

على المستوى السياسي الحزبي والفصائلي سيكون الأمر معقدا بسبب الواقع القانوني الإسرائيلي للفلسطينيين في الداخل، الذي يمكن أن يؤدي إلى تجريم إسرائيل أي تعاون سياسي من هذا القبيل، أو بسبب التباين في الرؤى بشأن أدوات النضال المتاحة. لكن في المقابل، هذا لا يمنع تطوير الحوارات بين مختلف الحركات والتيارات السياسية لتطوير مشروع وطني فلسطيني جامع.

في المرحلة المقبلة. مثلا، هل بمقدور الفلسطينيين في إسرائيل مقاطعة المنتوجات الإسرائيلية في إطار حملة المقاطعة، فيما هم مرتبطون بشكل بالسوق والاقتصاد الإسرائيليين سواء كمستهلكين وكعاملين فيهما؟ لا يمكن الشروع بذلك دون توفير بدائل، ودون إقناع الناس بجدوى هذه الخطوة النضالية وانعكاساتها على حياتهم اليومية. وتوفير البدائل هو جزء من أدوات الإقناع والنضال، وهذا بحاجة لتخطيط مدروس على المدى البعيد.

على المستوى العملي، ما ذُكر أعلاه يستدعي تطوير التعاون الاقتصادي والتجاري والصناعي والزراعي بين طرفي ما يسمى الخط الأخضر، وتحديدًا بين الضفة والداخل، ضمن خطة عمل جماعية تشمل غرف تجارة مشتركة وغيرها، إذ إن مثل هذا التعاون يجري على أرض الواقع اليوم ولكن بشكل فردي.

ويضاف إلى ذلك ضرورة تطوير التعاون والتشبيك والتكامل في المرحلة المقبلة بين مؤسسات المجتمع المدني والمجتمع الأهلي، ليس فقط السياسية أو الجمعيات الحقوقية أو التي تعمل في مجال المرافعة الدولية، بل أيضًا العمل الأهلي سواء الصحي أو الإغاثي أو التربوي إلخ... وهذا كان يحصل في السنوات الأولى من الانتفاضة الثانية، ومستمر حتى يومنا، لكن يجب تعزيزه وتطويره ومأسسته.

هذا كله يقع ضمن إستراتيجية طويلة الأمد لتحقيق ثلاثة أهداف؛ الأول، تعزيز صمود الناس في فلسطين، سواء في الضفة وغزة أو في الداخل؛ وثانيًا، توفير بدائل حقيقية للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل عن الخدمات والمنتوجات الإسرائيلية، إن كان في أبسط المستلزمات من المواد الغذائية وغيرها، وهذا جزء من الانفكاك أو تخفيف التعلق بالاقتصاد الإسرائيلي، أو من خلال المؤسسات التعليمية الجامعية (وآلاف الطلاب من الداخل يدرسون اليوم في جامعات الضفة لكن دون تنظيم جماعي)؛ وثالثًا، تطوير هذا التعاون والتكامل سيوفر للمشروع الوطني الفلسطيني آليات عملية في الواقع لخدمة الناس وقضاياهم، وسيزيد من شرعيته وشعبيته بنظر الناس، وقد فعلت ذلك منظمة التحرير الفلسطينية طيلة سنوات في دعم المخيمات وصمودها، ولاحقًا في الضفة الغربية خلال الانتفاضة الأولى.

أخيرًا، هل هذا بديل عن تطوير وبناء الفلسطينيين في الداخل لمؤسساتهم الوطنية القومية الجامعة، مثل لجنة المتابعة ولجنة رؤساء المجالس البلدية وغيرها من المؤسسات التي اختفت منذ سنوات؟ بالطبع لا، بل بالعكس، إذ سيكون من الصعب تطوير هذا التكامل بين الفلسطينيين في أنحاء فلسطين، إذ لم تكن لدى الفلسطينيين في الداخل مؤسسات جامعة حقيقية تنظمهم وتكون عنوانهم السياسي المشترك، وإلا لأصبحت محاولات التعاون والتكامل مبادرات فردية أو صغيرة لا تُعمر طويلًا ولا تغير في الواقع كثيرًا.

عن "عرب ٤٨"