يوم التقيت الامام موسى الصدر.. وانضممت الى حركة المحرومين بقوة

حجم الخط

بقلم بسام ابو شريف 

 

علاقتي بسماحة الامام موسى الصدر علاقة لها معنى، وبعد سياسي عميق نظرا لما كان يسود في تك الأيام، التي شهدت انطلاق حركة المحرومين، حركة أمل .

في ظل تلك الظروف هوجمت تلك الحركة من قبل تيارات سياسية عديدة بعضها كان محسوبا على الحركات التقدمية واليسارية، في تلك الأيام كانت التهم توزع جزافا، وتتهم سماحة الامام بالانتماء الطائفي والتحريض عليه من أجل أهداف سياسية غير واضحة المغالم .

كنت أرى في تلك الحركة جذرا أصيلا لا يتعاطى مع الطائفة، بل يتعاطى مع الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لشريحة من أبناء الشعب اللبناني لاتضم الشيعة فقط بل تضم كل الطوائف، ويمكن أن نطلق على هؤلاء الذين يمثلون ويشكلون تلك الشريحة اسم سكان مدن التنك، أي فقراء الامة، فقراء الشعب المظلومون في ظل حكم الطغاة، الذين يستخدمون الطائفية والطوائف لمراكمة الأموال في حساباتهم، واستغلال تلك المشاعر التي بؤسسونها لاثارة الفتن بين من يجمعهم حال واحد، وهو حال المظلومين الذين يمتص هؤلاء الفاسدين دماءهم، ويضحون بهم في معارك يومية لاتؤدي الا لزيادة ثرواتهم .

وفي تلك السنوات كتبت كتابات عامة أقف فيها الى جانب المحرومين من كل الشعوب والأمم أكتب لمناصرة العدل والحرية، وضرورة شن الحرب على الفاسدين والمفسدين، ومن يجمعون الثروات من دماء الفقراء ليقتلوا ويتفاتلوا ويموتوا على مذابح هؤلاء الأثرياء .

في تلك الأيام كنت رئيسا لتحرير مجلة الهدف الناطقة باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي وقفت باستمرار الى جانب الفقراء ضد الفاسدين والفساد، ورفعت شعار ” الحقيقة كل الحقيقة للجماهير”، كنت أكتب معظم الافتتاحيات اسبوعيا استنادا لفكر عميق، هو فكر الجبهة الشعبية كنت أكتب افتتاحيات يظن البعض أنها عامة جدا، لكنها في واقع الأمر تعبر عن ضرورة رص الصفوف ضد الظلم، وتعبئ من أجل نصرة الفقراء في مواجهة الفساد والفاسدين، الذين يستغلون الطائفية لكسب المزيد من الثراء .

في صبيحة يوم جاءني صديق في مكتبي بمجلة الهدف ليخبرني برغبة الامام في رؤيتي والحديث معي، قلت له : أنا ؟ لماذا ؟ لم أفعل شيئا يتطلب من سماحة الامام لقائي ؟ لم أفعل شيئا خارقا يجعل هذا الرجل العملاق يطلب لقائي، وأجبته على الفور وبعد دهشتي : انه لشرف لي أن ألتقي هذا العملاق، الذي أرى في نظرته نور المستقبل وأمل الفقراء والمحرومين، وبالفعل تم ترتيب اللقاء وخلال أربعة أيام كنت أشق طريقي بين صفوف عدد كبير من الناس الذين يريدون اللقاء بالامام، كان يقودني شيخ شاب اسمه الشيخ محمد يعقوب عندما وصلت الى مكتبه فتح الباب لأجد ذلك العملاق يفتح ذراعيه، ويرحب بي ويعانقني كما يعانق الأخ الكبير أخاه الصغير …. أحسست برهبة وفرح وجزع عند رؤية ذلك العملاق الذي كنت أتخيله، وأتخيل طول قامته لأفاجأ بأنه أطول مما كنت أتخيل … يشع فرحا وصدقا وبهاء أجلسني الى جانبه، وبادرني بالقول : ” أنا أقرأ كل ما تكتب، وأريد أن أقول لك أنك فيما تكتب تضع الاصبع على جرح المحرومين … أنت تكتب دون صلة معنا … أنت مناضل معنا دون أن تكون عضوا في حركتنا … انك قلم محبوب من الفقراء ” .

قال الامام هذا الكلام ثم أرجع ظهره ليستند الى مقعده، ونظر الي يتفحص ردة فعلي، فقلت له : هذا اطراء لا أستحقه … أنا جندي مقاتل في ثورة الفقراء ضد الطغاة، الذين يسلبون لقمة عيش الفقراء، ويستخدمونهم وقودا لمعاركهم، وضد الطغاة الذين ينهبون هذه الامة، أنا جندي بسيط، وأقوم بواجبي في نصرة الفقراء، والله على ما أقول شهيد …

ابتسم سماحة الامام ابتسامة عريضة، ورفع كفه الواسع وقال : “هذا بالضبط ما تريده حركة المحرومين، تريد قادة يقاتلون في الميدان، وليس في مكاتبهم … يقاتلون من أجل لقمة عيشهم وعيش الفقراء، ويحملون السلاح من أجل محاربة الفاسدين الطغاة وأسيادهم، وكرر ذلك (أسيادهم خارج الحدود) .

شكرةه فقال : ” لا لا تشكرني أنا لا أجامل، وانما أقول ما أشعر به بصدق، وأنا مؤمن وما يجول في صدري يجول في صدور المؤمنين، وقد عاهدنا الله أن نجاهد ونقاتل من أجل رفعة شأن هذه الامة، وفي هذا رفعة لاسم الله لأن الله حق وعدل “، طمأنني الامام بكلامه ورأيت في نظراته مالم أكن أرى من قبل .

رأيت في نظرته تحرير فلسطين

رأيت في نظرته حركة تضم أبناء الامة من كل الأطياف والألوان

أبناء اامة الفقراء الضحايا لهؤلاء الطغاة الفاسدين المرتبطين بالاستعمار والمرتبطين بالجهات التي تبذل كل شيء لتبقى الامة خاضعة لطغيانهم .

رأيت في نظرته قائدا حقيقيا لايتردد لحظة في اتخاذ قرار قد يعني مواجهة مع الموت لأن الدفاع عن هذه الامة، وعن فقرائها قد يعني بالضرورة في لحظة ما مواجهة مع الموت لأن أسلحة الطغاة لا تجلب سوى الموت للفقراء، وعلى الفقراء أن يواجهوا هذه الأسلحة ويواجهوا الموت بجد ذاته، لابل أن ينتصروا عليه، وهذا قرار، هذه ارادة هؤلاء الذين اعتمرت قلوبهم بالايمان … الايمان بأن الله يعلو فوق كل شيء، والله حق وعادل وكريم وسموح، ويرى كل ذرة، انه يرى مثقال الذرة يرى الخير في كل ذرة، ويفصل عنها الشر في كل ذرة

منذ تلك اللحظة توالت لقاءاتي مع الامام، الذي كان يطرح رؤيته ويطلب النصيحة، تصوروا هذا الامام المثقف القائد العملاق المطلع على فلسفات العالم، والمطلع الذي وصل الى الحقيقة وهي أن الالتزام بقضايا المحرومين، هو صنع التاريخ، أن يصنع التاريخ بحفره وقده في صخر صلب، المعركة ليست هينة لكنها صعبة، والمعارك الصعبة تحتاج لقادة أفذاذ .. تحتاج لمثل هذا القائد، الذي كان يرى ما لا يراه الآخرون، يرى هذه الامة من بحرها الى بحرها يخوض فقراؤها معركة واحدة ليست ذات صلة بطائفة أو ملة، بل مرتبطة بوضع انساني هو وضع المحرومين في هذه الامة سواء أسماهم الفاسدون سنة أو دروزا، هم حال واجدة تجمع كل هؤلاء حال الحرمان، وحال الضحية للفاسدين الذين ينهبون أموالهم ورزقهم

كان دائما متواضعا، ويطرح رؤيته، ويسأل ماذا ترى؟ ماذا تقترح؟، كان يحسن السمع للآخرين، وليس فقط يحسن سماع نفسه كما يفعل بعض القادة، هذا الامام كان يبحث عن الأسلحة، التي يمكن لجحافل الفقراء أن تمتلكها ضد الموت، وأسلحة الموت التي يمتلكها أعداء المحرومين .

ومرت الأيام، وجاء يوم لنبحث في العمق علاقة فلسطين، التي اغتصبت واسرائيل، التي بناها الاستعمار القديم، ومولها ونماها الاستعمار الجديد وحلفائه بعض الأنظمة العربية العميلة قال : ( يا بسام الفقراء لا يقاتلون طواحين الهواء، المحرومون يعرفون من هم الأعداء والأعداء، هم الذين يستغلون عيش المحرومين، الطغاة هم الاستعماريون الاستغلاليون، وقد يكونون من امتنا لكنهم فاسدون، وخرجوا منها، وامتنا منهم براء، اسرائيل بحد ذاتها من ألفها الى يائها ضد الشعوب، وضد الحق، والعدل، والمنطق، وحق تقرير الشعوب لمصيرها، هي في صلب معسكر أعداء المحرومين )، صمت الامام وراح يحدق في وجهي ليرى تأثير كلامه علي، وأنا خيم علي صمت لأنني أسمع من الامام، ولأول مرة وبهذا الوضوح موقفا صلبا عميقا عن الكيان الصهيوني، نظرت اليه وحدقت بنصف العين التي املكها بعد أن فقدت الاخرى في عام 1972، عندما حاول العدو اغتيالي، ابتسم وقال : أنت فقدت اليمنى أليس كذلك ؟

قلت : نعم، قال : ارى في اليسرى ماكنت تراه في اليسرى واليمنى، انك ترى بوضوح اننا نحبك، ونثمنك، ونعرف أنك أصيل ومقاتل وشجاع .

أحنيت رأسي وتمتمت، وقلت : يا سماحة الامام أنا لا أحتمل هذا المديح انا جندي كما قلت لك أقاتل مع رفاقي لانهاب الموت ونهاجمه، وهو يهرب منا .

ابتسم ابتسامة الرضا وقال : طالما أننا فتحنا الحديث في هذا الباب، فأنا أريد أن أسألك سؤالا هاما : هل ترى في أن معركة المحرومين ستتحول الى معركة مسلحة لأن الجواب على هذا قد يعني الكثير … علينا أن نتهيأ، وأن ندرب ونتسلح، فالمحرومون عندما يخوضون معركة يجب أن يكونوا متسلحين ليواجهوا الموت الزؤام .

قلت له : نعم ياسماحة الامام لا مجال أمام المحرومين في هذا العالم، لا مجال أمامهم من أن يعطيهم الفاسدون والطغاة حقوقهم عليهم أن ينتزعوا حقوقهم بالصبر والتضحية، وهز الامام رأسه كككل القادة العظام يدرس ويفكر، ومن ثم يؤخذ القرار، وكان بداية ذلك اضراب الامام عن الطعام في جامع من جوامع رأس النبع دعما لحركة الفقراء والمحرومين، ومطالبهم وضغطا على الحكومة اللبنانية، التي كانت ادارتها من الادارات الفاسدة، ومازال لبنان محكوما بمثل هذه الادارة، والمحرومون في لبنان وكل الدول العربية ليسوا شيعة فقط، بل مسيحيون وسنة ودروزا وكل الطوائف، ان الطائفة الأساسية لامتنا، هي طائفة المحرومين الذين عليهم أن يواجهوا الفاسدين والطغاة، وأن ينتزعوا حقوقهم منهم .

قلت له : أرى أن الارادة صلبة لديك يا سماحة الامام، فعلى بركة الله، وما علينا أن نقدمه يجب أن نقدمه لاخوتنا نحن نقاتل العدو الاسرائيلي في فلسطين، نحارب الاستعمار البريطاني والاستعمار الاميركي في كل مكان، وعلينا الوقوف الى جانب حركة المحرومين .

هب الامام واقفا فاتحا ذراعيه وبدوت كعصفوريين ذراعيه، فأنا صغير الحجم، وهو عملاق كبير وعانقني، وقال لي : اذهب يا بسام الله معك، وبركاته معك، وان الله مع الصابرين ولتكن معركتنا واحدة، وستكون ان شاء الله، وسننتصر باذن الله .

*من مذكرات بسام ابو شريف مع الامام موسى الصدر

* كاتب وسياسي فلسطيني .