بقلم: أحمد زقوت

انتصار الأخرس يعيد قضية الأسرى للواجهة من جديد

أحمد زقوت
حجم الخط

غزة - وكالة خبر

إن مقاومة الاحتلال شرفٌ تفتخر به الشعوب، وتتباهى به الأمم؛ فما من شعب ثابت وقع تحت الاحتلال إلا ومارس المقاومة بجميع الوسائل المتاحة، وما من شعب واجه الاحتلال إلا ونال حريته، ولقد أيقن الشعب الفلسطيني هذه الحقيقة منذ بدايات الاحتلال "الإسرائيلي" لوطنهم فلسطين عام 1948م، وعلى مدار 72 عاماً.

وخلال هذه الفترة قدم الشعب الفلسطيني أرقامًا خيالية من التضحيات ومقاومة المحتل، والشهداء إذا كانوا رحلوا بأجسادهم عنا ودُفنوا في باطن الأرض، فإن الأسرى قد غُيبوا بداخل السجون، ونالوا أشد العذاب والحرمان من غاصب أرضهم، وسالب حريتهم.

 إن هؤلاء الأسرى ليسوا أرقام تعد، وليسوا مجرد أبناء الوطن المغيبين، إنما بشر لهم حياتهم وحريتهم الذي يقيدها الاحتلال بسجنهم في غيابات الزنازين المظلمة، فهم أبطال ناضلوا وضحوا، فأفنوا زهرات شبابهم خلف قضبان السجون، من أجل فلسطين ومقدساتها، وهم أيقونات الحرية، الذين ينتظرون عودتهم لوطنهم المسلوب.

وكان منهم وليس آخرهم، الأسير ماهر الأخرس (49 عامًا) الذي يبرز لنا ثباته في وقوة شعبه في مقاومة المحتل، فهو استطاع أن يقاوم بطشه بعد الشروع في خوض معركة الأمعاء الخاوية بإضرابه عن الطعام لمدة استمرت 103 يوم، وخضع الاحتلال لمطلبه المتمثل بالحرية وقد نالها فعلًا بعد إرادة كالجبال الراسخة، انتصرت إرادته وعزيمته على مطرقة السجان وظلمه، وذلك بعد اتفاق نادي الأسير الفلسطيني مع سلطات الاحتلال يقضي بإطلاق سراحه في 26 من الشهر الجاري.

لم يكن الإضراب عن الطعام على الأخرس أو رفاقه الأسرى الفلسطينيين يوماً هو الخيار الأسهل، كما لم يكن هو الخيار المستحسن والمفضل لديهم، لكنه رغمًا عنه وأقل ألمًا وثمنًا من كرامتهم وإنسانيتهم، وهو خيار لتحريك المياه الراكدة وإثارة قضيتهم وإعادتها إلى الواجهة من جديد، وتسليط الضوء على معاناتهم ولفت الأنظار إلى ما تشكله قضيتهم في خضم الصراع. فهم لا يهوون تجويع أنفسهم ولا يرغبون في إيذاء أجسادهم، كما لا يرغبون في أن يسقط منهم شهداء في السجون.

وقد أصبح الإضراب عن الطعام جزءاً ثابتاً من حياة الأسرى الفلسطينيين داخل السجون، ما يدل على مدى يأسهم، فهم يرفضون الطعام، ويفضلون الموت على المعاملة المشينة التي يتعرضون لها، مثل البقاء في العزل الانفرادي لفترات طويلة، والتفتيش العاري المهين، والحرمان من النوم، والضرب المبرح.

فالأسرى لهم عنواناً بارزاً في مسيرة كفاح الشعب الفلسطيني، الذي يسطرونه كل يوم في مقاومة المحتل، فهو يحجب صورتهم وصوتهم حتى لا يتم فضح الوحشية تجاههم وتجاه أبناء شعبهم الفلسطيني، وأمام محاولات "إسرائيلية" كثيرة، تهدف لصهر الوعي وغرس مفاهيم جديد في أعماق الفلسطينيين تقضي بعدم جدوى المقاومة، ولعل الأخطر هي تلك المحاولات التي تهدف للإساءة إلى المكانة القانونية للأسرى الفلسطينيين وتجريم كفاحهم، وتقديمهم للعالم على أنهم "إرهابيون"، في إطار السعي لتجريم كفاح الشعب الفلسطيني ومقاومته المشروعة.

كل هذه المحاولات باتت بالفشل بسبب صمود الشعب الفلسطيني بوجه الاحتلال الغاصب، ومن المعروف أن السياسة المعلنة لدولة الاحتلال كانت دوما رفض التفاوض مع المضربين، لأنها ترى فيه محاولة للي ذراعها، فتبدأ في شن حرب صامتة على أجسادهم محاولةً كسره وإنهاءه، وبدأت المعركة وأشعلت إدارة السجون حربها ضد المضربين مبكراً، وتزامنت معها تصريحات صدرت عن بعض وزراء حكومة الاحتلال، طالبوا فيها بإعدام الأسرى وعدم تقديم العلاج لهم وتركهم يضربون حتى الموت.

والأسير ماهر الأخرس يقدم نموذج أسطوري لكسر هيبة سياسة الاحتلال بإرغامه على مطلبه بفك قيده من ظلمهم، فالمعركة التي خاضها والأسرى في السجون هي معركة الكل الفلسطيني، إذ المستهدف ليس الأسير الفلسطيني ولا عملياته الفدائية ضد المحتل فقط، بل المستهدف هو الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة، ومشروعية كفاحه من أجل دحر الاحتلال وانتزاع الحرية والاستقلال.

استمر إضراب الأخرس (103) أيام، ولم تهن عزيمته رغم إصرار الاحتلال على مواصلة اعتقاله قبل التوصل لاتفاق يفرج عنه، لكن رفاق الدرب من أسري الحرية، ما زالوا يضيئون شمعة الحرية في ظلام السجن "الإسرائيلي"، ويفضحون جرائمه في حقهم، ويميطوا اللثام عن وجوه مجرمي الاحتلال وقادة الدول والأقطاب وخاصة في الغرب عمومًا والولايات المتحدة خصوصًا، الذين يدعون زورًا وبهتانًا، أنهم مدافعون عن حقوق الإنسان.

معركة الأمعاء الخاوية البطولية، ليست معركة الأخرس، بل هي معركة الأسرى جميعًا، ومعركة الشعب قِيَادَة وأحزابًا وقوى وفصائل وقطاعات ثقافية وإعلامية واقتصادية، ومعركة كل أنصار الحرية والسلام في العالم، معركة الأمم المتحدة ولجنة حقوق الإنسان التي عليها مسؤوليات خاصة تجاه أسرانا الأبطال.

لقد قيل منذ القدم إن الجوع كافر، لكن هناك مِن جعل هذا انفجار أمام بطش المحتل، ومن الأـسرى جعلوا الجوع ثائراً خلف قضبان سجون الاحتلال "الإسرائيلي"، فهم كسروا هيبته وفضحوا وصورته أمام العالم، وأظهروا صلابة وقوة قضيتهم وموقفهم، فهنيئًا لك يا ماهر حريتك وصبرك وثبات إرادتك.