صائب عريقات وطني فلسطيني ومفاوض صلب ورجل سلام

حجم الخط

بقلم: يوسي بيلين*

 

لقد فقدنا صائب بعد أن خانه جسده فيما بقيت روحه حية، ناشطة، يقظة، ومستعدة لتحديات جديدة.

على الصعيد الدبلوماسي تحول مفهوم كلمة «صديقي» الى كلمة استبدلت مفهوم «معرفة» أو "محاوري". ولكن المحادثات الكثيرة التي أجريناها، تلك الرسمية، وخاصة غير الرسمية والزيارات المنزلية والسفريات لمناسبات في الخارج حولتنا الى أصدقاء.

في البداية، كانت الخلفية الأكاديمية المتشابهة لكلينا، فكلانا درسنا وعلمنا العلوم السياسية، وقرأنا كتبا مشابهة، وتطرقنا لنفس النماذج واعتدرنا على أن نضحك كوننا نشبه سجينين بدلا من أن يتبادلا النكات كانا يشيران فقط الى عدد النكات ويبدآن بالضحك.

بعد ذلك، بالمقابل، كانت المحادثات السياسية، وهو لم يكن مفاوضا «سهلا» من ناحية اسرائيل، ولكنه لم يتردد في اشراكنا بالتمييز الذي قام به بين ما هو مركزي وما هو ثانوي في أهميته، وهذه ليست الطريقة التلقائية لإجراء المفاوضات، فغالبية المتفاوضين في الجانبين يفضلون الوصول لطاولة المفاوضات مع قائمة طويلة من المطالب، وعرضها جميعا كـ «خطوط حمراء» ويبدأون بالمساومة.

ولكن في هذا الوضع فإن الطرف الآخر لا يستطيع التمييز بين الرئيسي والتافه، والخطر بالنسبة لمن يعرض قائمة طويلة أكثر مما ينبغي هو ان الطرف الثاني يكون مستعدا تحديدا للتنازل في المواضيع الأقل اهمية. صائب لم يفعل ذلك أبدا.

المثال الأفضل بنظري، وفق أسلوبه، تم التعبير عنه في النقاشات حول المساحة المستقبلية للدولة الفلسطينية وقد اعتاد على القول ان القيادة الفلسطينية قدمت التنازل الاكبر بموافقتها على أن تقام الدولة الفلسطينية على 22 بالمائة من المساحة الانتدابية، ويدور الحديث عن 6200 كيلومتر مربع وانه غير مستعد للتنازل عن ذلك، والمسألة الأخرى هي مكان خط الحدود الدقيق، وقد رأى بشأن ذلك ان هناك مجال للتفاوض، بحيث تؤخذ بالاعتبار احتياحات اسرئيل.

إن وطنيته طالما لم تكن مصابة بالتطرف تعتبر قيمة ايجابية بنظري، لأنها تُسَهّل على الانسان ان يعيش حياته في اطار جماعي يفخر به ويشعر بالارتياح فيه.

صائب كان وطنيا فلسطينيا آمن جدا بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وكان يقدّر بأن التعاون مع اسرائيل خلال السلام وفي الطريق الى السلام يمكن أن يكون ذخرا استراتيجيا للدولة الفلسطينية العتيدة.

هنا كان اللقاء الفكري بيننا، فكلانا نشأ مع رواية مختلفة جدا ومع شعور بأن الطرف الثاني ألحق بنا اجحافا رهيبا، ولم يكن أي منا مستعدا للتنازل عن الرواية التي يعرفها، ولكننا قررنا كلانا ان التاريخ لن يدفعنا الى التنازل عن خلق مستقبل أفضل من أجل الأجيال القادمة التي ربيناها.

هذا ليس قرارا سهلا، وليس بديهيا، فقد تغذت أجيال كثيرة وشعوب كثيرة من الكراهية المتبادلة، ومن مشاعر الانتقام التي ميزتها وغذتها.

لقد آمنا أن من الممكن وضع حد لذلك وان نخطو نحو آفاق جديدة، هذا اللقاء الفكري حولنا الى أشخاص يستطيعون الحديث فيما بينهم ليس فقط عن الأمن وعن تقسيم القدس، وإنما ايضا عما يحدث في عائلاتنا وعن معضلاتها الخاصة وعن الأمور اليومية التي لا تنطوي على الكثير من الألق، ولكنها هي التي تصنع الحياة.

إنني أتذكر ذلك الشتاء القاسي الذي هطلت فيه حياة الأمطار بغزارة في أريحا، هاتفت صائب كي أسأل عن وضع بيتهم، فروى لي ان ابنتيه، اللتين كانتا في ذاك الوقت مع شببيبة اسرائيليين في معسكر "بذور السلام" تلقتا 23 رسالة الكترونية من اسرائيليين سألوا عن سلامتهما. سمعت دموعا في صوته.

إن فقده هو ضربة قوية جدا لنعمة والأولاد. وهو ايضا فقدان كبير بالنسبة لي. وقد كنا مرارا نسأل أحدنا الآخر أسئلة فلسفية: ماذا سيكون بالنسبة للجيل الشاب من أولادنا؟ وهل نحن آخر الموهيكيين الذين يؤمنون ان السلام لا يعني الدوس على الآخرين؟

من المحظور ان تكون الإجابة على ذلك إيجابية. ان إسهام صائب لمسيرة السلام كان هائلا ولكن الميل الصحفي لإطلاق لقب "آخر طالبي السلام" عليه يشكل الصفعة الأكبر لذكراه.

لسنا الأخيرين وان نجاحنا الأكبر يكمن في السائرين على دربنا وهم ليسوا قلائل في كلا الجانبين.

لتكن ذكراه مباركة.

*وزير إسرائيلي سابق من حزب العمل ومفاوض كبير سابق