الحدث الترامبي، كمان مرّة..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

بقلم: حسن خضر

64 يوماً تفصلنا، وتفصل الأميركيين، وما لا يحصى من بني البشر، عن ظهيرة يوم الأربعاء، الموافق للعشرين من كانون الثاني (يناير) 2021، اللحظة التي سيَخرج، أو يُخرج، فيها دونالد ترامب مطأطئ الرأس، خائباً ومدحوراً، من البيت الأبيض. وحتى، وعندما، يحدث ذلك، لا ينبغي، أو يحق، لعاقل إسقاط أكثر السيناريوهات سوداوية من الحسبان، أو التردد في التأويل، واستخلاص العبر. والواقع أن حساب الوقت بالأيام، وربما بالساعات عند البعض، لا ينم عن ولع خاص بالتواريخ والأرقام بقدر ما يفضح قلقاً يصعب إنكاره، أو حتى التقليل من آثاره المُفزعة.
فقد يواصل ترامب، وعصابته (سنعود إلى تعبير عصابة، ومسوّغاته في معالجات لاحقة) لعبة التسويف في المحاكم حتى اللحظة الأخيرة، وربما ينتقل الصراع إلى تناقض مفتوح، ومفضوح، بين مجلسَي الشيوخ والنوّاب، وإلى رهان على قرار من المحكمة العليا لنزع الشرعية عن الانتخابات، ونتائجها. وفي النظام القضائي الأميركي من الفجوات، والاجتهادات، والتأويلات، ما يكفي لهذا كله ويزيد. ولا ينبغي استبعاد محاولات لـ «جس» نبض مؤسسات عسكرية وأمنية، ودراسة قوّة الميليشيات اليمينية المسلّحة على الأرض، ومدى كفاءة التهديد بالحرب الأهلية في فرض قواعد جديدة للعبة السياسية.
تبدو سيناريوهات كهذه وكأنها مُنتزعة من ديستوبيا روائية من صنع الخيال. ولكنها جدية وحقيقية. وإذا لم يصدق أحد مدى جديتها فليتأمل «ولدنات» ترامب التحريضية على أغصان «تويتر»، وتصريح وزير الخارجية، بومبيو، الذي يمكن إطلاق أوصاف كثيرة عليه، لن نعثر بينها على ما يوحي بـ «خفة الدم»، والذي تكلّم بما يشبه الهمس، ولكن بطريقة لا تقبل التأويل، وشبح ابتسامة على شفتيه عن «انتقال سلس للسلطة في العشرين من يناير لولاية ترامب الرئاسية الثانية».
وفي السياق نفسه، ثمة ما يبرر النظر إلى كلمة قائد الجيش الأميركي، الجنرال ميلي، بعد إقالة وزير الدفاع قبل أيام، بعناية بالغة: «نحن لا نقسم بالولاء لملك أو ملكة، ولا طاغية، أو دكتاتور، ولا نقسم بالولاء لشخص بعينه، أو بلد، أو قبيلة، أو ديانة، بل نقسم بالولاء للدستور». تنطوي كلمات ميلي على أكثر من رسالة، وإذا شئت على «تهديد» مُبطّن لا يصعب العثور عليه. وهذا قد يلجم ترامب وعصابته. ولكن فكرة «الانقلاب»، والاستيلاء على السلطة بالقوّة أصبحت على الطاولة، بعدما زرعها ترامب، وقد تصبح أمراً واقعاً قبل نهاية النصف الأوّل من هذا القرن.
ورغم أن لكل ما ذكرنا، حتى الآن، دلالة درامية، إلا أن حجم الدلالة، وفداحتها، لا يتجليان بطريقة كافية ما لم نضع في الاعتبار أن ثمة كوميديا سوداء فاقعة في صميم هذا كله. فالكائن البرتقالي، الذي يبدو وكأنه هبط من كوكب آخر، الذي حوّل الدولة الاتحادية الأميركية، ونظامها القضائي، وتقاليدها السياسية، إلى رهائن، لا يعتنق قناعات، أو أيديولوجيا سياسية بعينها، ولا تسكنه طموحات أو أحلام غير وثيقة الصلة بذات مريضة تضخّمت. وهو على استعداد لعمل أي شيء، وكل شيء، إذا كان ثمة منفعة مادية شخصية، له ولعائلته، ومعنوية، كأن يرى رسمه في كل مكان، وأن يلهج بالثناء عليه كل لسان.
قبل «الانخراط» في السياسة، وبوصفه أحد تجّار العقارات في نيويورك، وأحد المشاهير من الدرجة الثانية، تنقّل ترامب من عضوية الحزب الديمقراطي إلى الجمهوري، وبالعكس، سبع مرّات، كما كان من أبرز المتبرعين للديمقراطيين، وقد برر هذا بالقول: «إن بعض الدواليب تحتاج إلى تزييت» (يعني رشوة). وعندما قرر الترشّح للرئاسة عن الجمهوريين استشار خبيرَين (كان أحدهما ستيف بانون)، فقالا له: إن أحداً من الجمهوريين لن يصوّت له طالما يؤيد الحق في الإجهاض، فرد عليهما كاذباً: ولكن أنا لا أؤيد الحق في الإجهاض. قالا: اسمع، هناك تسجيلات أيدت فيها هذا الحق بالصورة والصوت. فأسقط في يد الكاذب، وسأل بلا خجل: وهل يمكن «تزبيط» هذا الموضوع؟ قالا: نعم، وأجاب: إذاً، أنا ضد الحق في الإجهاض.
وبقدر ما يعنينا الأمر، يزيد عدد الإنجيليين في أميركا على الثمانين مليوناً، وأغلب هؤلاء يؤيد إسرائيل، لأسباب دينية (فسّرناها من قبل، وسنفسرها في معالجات لاحقة). لذا، وجد فيهم ترامب قاعدة انتخابية يمكن الرهان عليها، إضافة إلى شرائح من الطبقة الوسطى البيضاء أفقرتها العولمة، وأثارت ذعرها موجات المهاجرين. وهذا لم يجد ممانعة جدية من جانب الجمهوريين الذي فقدوا الكثير من قواعدهم الانتخابية التقليدية، ولم تعد لديهم زعامات «جماهيرية» قادرة على تمثيل الحزب، أو يصعب وصمها بالانتماء إلى «النخبة»، و»المؤسسة» التي تضم الجمهوريين والديمقراطيين.
وإذا أردنا أن نكون أكثر مباشرة، في هذا الشأن، يجدر القول: إننا في العالم العربي (أعني مصر وبلاد الشام، والعراق، وشمال أفريقيا، واليمن) لن نتمكن من تكوين وجهة نظر موضوعية، وثاقبة، بشأن «سلام إبراهيم» و»حلفاء» ترامب من العرب والعربان ما لم نكن مدركين لحقيقة الكائن البرتقالي هذا، ودوافعه، ومدى رخصه، وقابليته للبيع والشراء. والمفارقة أن تقويض الشرعية، والقانون، والمؤسسات الدولية، بالمعول الترامبي إرضاء لليكود الأميركي والإسرائيلي، يجرّد العربان أنفسهم من ضمانات البقاء في عالم تحكمه شريعة الغاب.
كان في وسعهم أن يفعلوا كل ما فعلوا، ولكن ليس باسم السلام، ولا بدعوى التنمية، والازدهار، وتعميم «ثقافة السلام» في الشرق الأوسط. وكان في وسعهم أن يفعلوا كل شيء، وأي شيء، ولكن ليس باسمنا، أو على حسابنا، ولا بالسحب من رصيدنا. فاصل ونواصل.