الحكمة في سد الفراغ

حجم الخط

بقلم: د. دلال صائب عريقات

 

يشهد الشارع الفلسطيني فراغاً وتطورات عشوائية منها الإعلان عن استئناف العلاقات الفلسطينية مع الطرف الإسرائيلي. في هذا الصدد لا ينكر اي فلسطيني عاقل أو سياسي مُحنك علاقة السياسة بالاقتصاد وحقيقة حاجة الشعب الأعزل الذي يعيش تحت الاحتلال لأموال المقاصة وحقيقة عدم مقدرة السلطة الوطنية الفلسطينية على الاستمرار بهذه الطريقة. ولكن من واجب التحليل السياسي والمنطق الذي يحترم عقول الشعب الفلسطيني الصامد والذي تحمل تبعات إعلان القيادة منذ ستة أشهر قطع كافة العلاقات والتنسيق الأمني مع الجانب الإسرائيلي الذي تزامن مع قرار منظمة التحرير الصائب أنها في حلٍ من كافة الاتفاقات والتفاهمات مع الحكومة الإسرائيلية، أن يتناول قرار عودة العلاقات مع الاحتلال الذي جاء بموجب رسالة رد تسلمتها السلطة من الحاكم العسكري الفعلي للأراضي الفلسطينية المحتلة الجنرال كميل أبو ركن يتحدث فيه عن التزام اسرائيل بالاتفاقيات الموقعة، مما أثار انتقادات واسعة في الساحة الفلسطينية، وهنا لا بد من طرح التساؤلات التالية:

- أليس من الحكمة أن تضع القيادة الفلسطينية ملف المصالحة في أعلى سلم الأولويات، خاصة بعد اجتماعات الأمناء العامين للفصائل التي بدأت في أيلول واستمرت في تشرين أول، والتي حددت أولوية وواجب الفصائل الفلسطينية المختلفة لاصلاح البيت الداخلي وتحقيق الوحدة وإنهاء الانقسام، الذي اصبح "العُذر والحجة" الذي يُستخدم ضد الشعب الفلسطيني من القريب قبل البعيد، أيختلف اثنان ان الوحدة هي قانون الانتصار، أن الأولوية الوطنية هي للوحدة والديموقراطية والانتخابات حتى يشارك الشعب في صنع القرار السياسي، خاصة بعد عام حافل من تداعيات صفقة القرن وخطط الضم واتفاقيات التطبيع العربي وتردي الوضع الداخلي.

- ألا تستدعي الحكمة أن يخرج القرار الفلسطيني باسم منظمة التحرير الفلسطينية، خاصة في ظل غياب الديمقراطية، أليست منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.

- ألا تقول الحكمة أن اسرائيل كسرت كل مبادىء الاتفاقيات وعملية السلام، كيف ننسى ان اتفاقيات السلام بمجملها بدأت باتفاق تعاقدي دولي ينص أن هدف عملية السلام: أولاً: تنفيذ القرارين 242 و 338 اي عدم جواز احتلال أراضي الغير بالقوة وحفظ حق اللاجئين حسب قرار 194 وانهاء الاحتلال الاسرائيلي. ثانياً: خص قضايا الوضع النهائي وهي القدس والحدود واللاجئين والمياه والاسرى والاستيطان، والخلاصة إذاً نحن في حلٍ من هذه الاتفاقيات.

- ألا تستدعي الحكمة وعند النظر والحديث عن اي اتفاقيات موقعة مع الطرف الاسرائيلي، الاعتراف الصريح وغير القابل للتأويل بأن هذه الاتفاقيات ما هي الا مراحل انتقالية كان من المتوقع ان تفضي لمفاوضات الوضع النهائي بالعام ١٩٩٩، أوليست الحقيقة الشفافة انها اتفاقيات منتهية الصلاحية وغير قابلة للعمل بها. بدلاً من اجترار الاتفاقيات السابقة، أليس من الحكمة والمصلحة الوطنية تبني أدوات القانون الدولي وحقوق الانسان والمحاكم الدولية.

- ألا تستدعي الحكمة إنهاء ملف الاستيطان كشرط أساس قبل العودة لأي تعاملات مع اسرائيل، ما المنطق بالحديث عن الالتزام الاسرائيلي بالاتفاقيات الموقعة منتهية الصلاحية ما دام المشروع الكولونيالي الاستيطاني في توغل مستمر. الحقائق التي فرضتها الجغرافيا الاستيطانية لم تبقِ مكاناً للحلم الفلسطيني بدولة سيادية. أليس ملف الاستيطان هو هفوة اتفاق أوسلو الذي تفاجأ به أعضاء الوفد المفاوض من الأرض المحتلة وضم كلا من الدكتورة حنان عشراوي وشهداء الوطن الدكتور حيدر عبد الشافي وأمير القدس فيصل الحسيني والدكتور صائب عريقات، الذين غضبوا واستاؤوا وعبروا عن إحباطهم مما توصلت له القنوات الخلفية السرية لعدم تطرق الاتفاق للاستيطان، إلا أن وفد الداخل ومن حرصهم على المصلحة الوطنية وتقديمها على المصلحة الشخصية آثروا دعم الرئيس الراحل ياسر عرفات والرئيس محمود عباس ومهندسي الاتفاق.

- تدعو الحكمة لمراعاة العلاقات الدبلوماسية، ولكن بعد تطبيع الدول العربية والاستياء الفلسطيني الرسمي والشعبي، بسبب مخالفة ميثاق جامعة الدول العربية ومبادرة السلام العربية وضرب الحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف وقرارات الشرعية الدولية بعرض الحائط كان لا بد من احترام قانون الدبلوماسية الرسمية وهو المعاملة بالمثل وليس الانهزام والاستسلام بلا ثمن.

- ألم ندرك أن الحكمة تسمح بالاختلاف ما دام الاحترام والقانون هو الفصل، ودون استعراضات ودون انتصارات، ستختلف السياقات وطبيعة أدوار أصحابها الفعلية في المشهد الفلسطيني، سنجد من يجري وراء المصالح وسنجد من يؤرقه الوطن. فالأفراد عبيد لمصالحهم وحاجاتهم، وخاصة في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها السلطة بسبب مقاطعة المقاصة. ألا تستدعي الحكمة عكس الإرادة الشعبية في مواجهة الاحتلال وسياساته وممارساته الكولونيالية، ألا تتطلب الحكمة وقف التعويل على الانتخابات الامريكية او الاسرائيلية، أليس علينا البدء من الداخل والتوقف عن الرهان على الخارج، إلى متى سنتجاهل المعادلة الفعلية في صراعنا مع الاحتلال، حيث الشعب يسطر صموده على أرضه سداً أمام مشروع الاحتلال التوسعيّ. ألا تستدعي الحكمة ترجمة الانتصارات والتصريحات واقعاً على الأرض، بخلاف المواقف المتناقضة لدى أطراف متعددة في المشهد السياسي المتمثلة بمواقف الفصائل الفلسطينية، ماذا يبقى غير الصمود وحب الوطن، والوفاء للشهداء وللأسرى وعائلاتهم واحترام العقول.

- ألا تستدعي الحكمة وجود منظومة إعلامية رسمية تخاطب العقول لتعزيز ثقة الجماهير بقيادتهم الوطنية وقرارتها، لحماية الرئيس الفلسطيني والنظام السياسي من التهديد في ظل التراجع السياسي والتطبيع وخطط الضم المتمثلة بالمشاريع الاستيطانية التي تسعى لتحويل مخصصات الأسرى والشهداء من قضية وطنية وسياسية إلى قضية اجتماعية.

الْيَوْم فلسطين بأمسّ الحاجة للحكيم اكثر من الحاكم، يحتاج الرئيس الفلسطيني لمجلس استشاري يجمع الحكماء الحريصين على الوطن لإسداء النصيحة التي تغلب المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار، والحكيم هو الشخص الذي يتصف بالرؤية والرأي السديد في القول والفعل، والحكيم الحاكم هو الذي له الأمر فهو يحكم بين الناس. الحكمة تعني وزن الأمور بميزانها الصحيح، فالله تعالى لم يخلقنا عبثاً، ولم يقدر لنا أمراً على نحو عشوائي، بل وراء كل شيء حكمة بالغة قد يدركها المرء، وقد تغيب عنه؛ ولكنها حتماً لا تغيب عن العاقل.

لا خلاف أن قرار القيادة أتى كنتيجةً طبيعية لتردي الوضع الاقتصادي الداخلي، فالقيادة في خدمة الشعب الفلسطيني الذي يعايش قسوة الواقع الذي أنتجته سياسات الاحتلال الاستعمارية على مرّ العقود، الحال الذي يتطلب اعادة دراسة قراراتنا الوطنية، ويجب ان تتوازى منهجية القيادة مع طموح وآمال جماهيرنا الواعية.

من الحكمة ان يعود الحاكم لأصحاب الرأي الصائب والسديد من الحكماء وعلماء السياسة من خلال الدراسات التي تستطلع رأي الجمهور واتخاذ قرارات تعكس الإرادة الشعبية بالاستفتاء حتى تحقيق الديمقراطية الحقيقية التي تمثل ١٣ مليون فلسطيني حول القارات الخمس وفِي مخيمات اللجوء والوطن المحتل.

قال أرسطو "الطبيعة تكره الفراغ"، والحياة السياسية العشوائية انعكاس للفراغ، إلا أن فلسطين لا تحتمل الفراغ، الفراغ هو ذلك الشيطان الذي يغوي السنابل الحمقاء ويغريها فترفع رؤوسها مع رياح العشوائية ثم إذا جاء وقت الحصاد طرحت بعيدًا عن متن الحياة الذي لا يرقى لمستوى الخلود وفي النهاية، وصيتنا فلسطين ولنا الحرية في أن نكون هوامشًا أو متنًا.. أن نتلاشى أو أن نكون خالدين

د. دلال عريقات: استاذة الدبلوماسية والتخطيط الاستراتيجي، كلية الدراسات العليا، الجامعة العربية الأمريكية