المقال رقم 500

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد الغني سلامة

بهذا المقال أصل إلى الرقم 500 من المقالات المنشورة في «الأيام»، سبقها نحو مائة مقال نُشرت في صحف فلسطينية زميلة، ونحو 400 مقال نُشرت على موقع «الحوار المتمدن».
لا أعرف عدد القراءات التي حظيتُ بها، بيد أنّ عدّاد موقع الحوار المتمدن يشير إلى نحو ثلاثة ملايين زيارة كانت من نصيبي.
أود أن أشكر كل من تفضل بقراءة ما كتبت.. ولكن ما دلالات هذه الأرقام؟ وماذا تعني لي؟
طبعاً، عدد المقالات أو عدد القرّاء ليس للتباهي، فلم يُعد الأمر خارقاً؛ وقد سبقني وتفوق عليَّ آلاف الكتّاب، والرقم نفسه ليس هدفاً؛ ولكنه، احتراماً للقراء، وتقديراً مني لهم يعني لي قيمة كبيرة.. وفي الفضاء الإلكتروني تغدو لغة الأرقام مضللة، وأحياناً تعكس حالة غير عادية لظاهرة ما في لحظة تاريخية فارقة، يكون فيها الذوق العام في أدنى درجاته.. بيد أن هدفي من ذلك هو وقفة للتأمل، والتفكر، وإعادة طرح السؤال الملح: لماذا نكتب؟ ولمن؟
الكتابة بالنسبة لأي كاتب تتحول من هواية إلى إدمان، أو إلى رسالة .. البعض يتخذها حرفة يتكسّب منها (وهذا مشروع جداً)، والبعض يسعى لإيصال صوته إلى الجمهور.. والبعض يتخذها وسيلة للوصول إلى غاية في نفسه.. البعض يكتب فضفضة، أو ليزيح عن كتفيه ثقل الواقع، أو ليبوح لقلمه كي لا يقتله الصمت، وحتى لا تظل أحزانه حبيسة في صدره، أو لبثّ حنينه وقلقه، ليشارك القراء مشاعره، أو حتى يستشعر بوجوده، ويتأكد أنه ما زال حياً.
البعض يكتب ليعرفه الناس، أو ليعرف نفسه، ويستكشف روحه.. البعض يتوهم أنّ الجماهير تنتظره واقفة على أطراف أصابعها، وأن كلماته ستغير الواقع، وستجعل الحياة معزوفة موسيقية، أو أنه سيجبر القيادة على تغيير سياستها، وأنه سينشر النور ويبدد العتمة.. وهذه نرجسية مفرطة.
قد تكون الكتابة جسراً للوصول إلى الحقيقة، وتلبية حاجات المجتمع، أو لملء صفحات الجرائد والمجلات، أو مجرد أحلام وخيالات واهمة، وتضليل، ودعايات، وطمعاً في الشهرة، أو للهروب من الواقع. أو حاجة فطرية لدى الكاتب لترك بصمة في العالم.
الكاتب المحترف يعرف ماذا يخفي وماذا يُظهر.. وهذا سلاح بحدين.. والقارئ الذكي يميز بسهولة.. الكاتب الغبي هو من يتذاكى على القراء، أو يستهين بوعيهم.
الكتابة هي ضمير الكاتب، تكشف ما بداخله؛ لأنها تفكيره المقروء.. الكتابة عملية توحد مع الذات لرسم صورة عن الواقع، وانفصام عن الواقع لرؤية انعكاسه على الذات، بكل شفافية.
هي السفر إلى ذوات الآخرين وسبر أغوارها؛ من يعيشون في متن المجتمع ويفعلون فيه الأفاعيل، أو يقبعون على هامشه.
هي تقمّص لحالة الكون، والبحث في الوجود عن الكائنات والظواهر بكل حيادية.
هي ولادة صوتنا الداخلي لجعل الصمت ممتلئاً بالمعنى، ولمنح الحياة جدوى وقيمة.
ومع ذلك يظل السؤال: هل قيمة الكتابة تكمن في فن التلاعب بالكلمات، وتطويع سحر البيان؟ أم هي ذكاء التقاط الصورة من المشهد؟ أم هي اجتراح المعنى، والبحث عما هو مختبئ؟ أم هي القدرة على جعل البائس يسخر من بؤسه؟
إذاً؛ دوافع الكتابة مختلفة، المهم أن نكتب بشغف وصدق.
كثيراً ما توقفتُ، متسائلاً: هل ثمة من يقرأ لي؟ هل ما أكتبه يستحق العناء؟ وتراودني أحياناً مخاوف أن يكتب أحدهم محتجاً: لقد أضعت وقتي بهذا الهراء.. ابحث لك عن هواية أخرى غير الكتابة.. وما يدفعني لهذه المراجعات فكرة مجنونة طالما راودتني: لو أردنا طباعة هذا العدد من المقالات لاحتجنا كمية من الأوراق تتطلب قطع غابة مطيرة بأكملها.. فهل يستحق الموضوع تخريب الطبيعة بخربشات قد لا تفيد أحداً!
حسنا فعلتْ بنا تكنولوجيا المعلومات.. إذ أتاحت لنا إيصال صوتنا إلى آخر بقعة وصلتها الكهرباء في كوكب الأرض دون أن نضطر لقطع شجرة.. ولكن ضرر الكتابة، إذا أُسيء استخدامها، أشد وطأة على البشر، حتى لو نُشر في الفضاء الافتراضي فقط.. الكلمة أمانة، ومسؤولية، قد تودي بصاحبها إلى الدرك الأسفل من الجحيم.
عن ماذا نكتب؟ عن البؤساء، الذين يولدون ويموتون دون أن يقابلوا أحداً غير ظلالهم على جدران الخيبة! عن السماسرة، أم عن الأنظمة أم ركائزها! عن الظلم أم عن الظالمين أنفسهم! عن الماضي التليد أم عن المستقبل المهدد! عن إسرائيل أم عن المطبعين؟ أم عن الطائفية! أم عن عجائب الدهر، والظواهر الغريبة، ونهايات الزمن، حيث تبدلت المفاهيم وانقلبت المعايير. أم عن العنف المجتمعي، والفساد، والمطبات، والطوابير، والغلاء. أم عن الجريمة والتخلف والتطرف، وخطط التنمية المعطلة، والقرارات الغبية، ومزاجية المسؤولين، وسلوك البعض المريب، والتغيرات التي عصفت بالمجتمع حتى عرت البعض من معاني الإنسانية، وإحالتهم إلى حطام بشر، ووحوش تأكل بعضها.
أم نكتب عن المقاومة والمضحين بأنفسهم، والمعتقلين الذين لا يرون من السماء إلا غيوماً مقطعة على شكل قضبان النافذة، أم عن بيوت الصفيح التي لا يزورها إلا البرد والريح الزمهرير، والأطفال الذين ينتظرهم مستقبل مجهول، والشباب الذين تخبو عزائمهم ساعة بعد أخرى، ويحترقون على مذبح الواقع الفج يوما بعد يوم، والمنسيين والمهمّشين الذي لا يسمعون سوى صدى صرخاتهم في وديان التيه والنسيان، والنساء اللاتي يُقتلن ظلماً صبح مساء.
عن ليالينا الحزينة، عن قلقنا المشروع، عن سنواتنا العجاف، عن الخوف الساكن فينا، والصرخات التي تدوي في أعماقنا وندفنها في تجاويف الصدر قبل أن يسمعها أحد.
لا أدعي أني بلغتُ غايتي، أو نجحتُ بالتعبير عن كل ما يجول في خاطري، ومع ذلك، لا بد من المحاولة؛ فما زلتُ مؤمناً بجدوى الكتابة.
في صغري قرأتُ قصصاً ومقالات كثيرة، ما زلت أذكر بعضها، وأذكر كيف أثّـرت بي.. كل ما أطمح إليه أن أترك أثراً بسيطاً في نفس القارئ، أن ألامس قلبَ شاب على حافة اليأس، أو أن أجيب عن سؤال حيّر البعض، أو أن أطرح سؤالاً لم يخطر ببال القارئ أن يطرحه على نفسه.. أن أغني للأرواح المعذبة والمتوثبة والطامحة والعاجزة.. وأن أكتب عن الإنسان، بوصفه إنساناً قبل أي شيء آخر.
سأظل ممتناً لكم، وسأحاول الإطاحة بهواجسي ومخاوفي، لأواصل الكتابة، منقباً في مليون سؤال جديد.