على أعتاب ولاية بايدن : أوباما، الولايات المتحدة وإسرائيل

حجم الخط

بقلم أنطوان شلحت

 

بالرغم من أن الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن أكد أن ولايته في “البيت الأبيض” لن تكون بمثابة “ولاية ثالثة” لباراك أوباما، الرئيس الأميركي السابق (2008-2016) الذي أشغل بايدن منصب نائب له، نظراً إلى ما طرأ على الولايات المتحدة وعلى العالم من تغيرات منذ ذلك الوقت، فإن تحليلات كثيرة استندت إلى قيام هذا الأخير بتعيين عدد كبير من الأشخاص الذين كانوا في عداد طاقم أوباما في أبرز المناصب المفتاحية في الإدارة الأميركية المقبلة، كي تخلص إلى نتيجة فحواها أن احتمالات استمرارية السياسة التي انتهجتها إدارة أوباما على المستويات كافة ستظل أكبر من احتمالات تغييرها.

وعلى فرض حدوث ذلك، أتصوّر أن التعرّف إلى أبرز المعالم التي اتسمت بها رؤية أوباما حيال العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل سيكون مُجدياً أكثر في كل ما يتعلق بسؤال الرهان على إدارة بايدن.

وبرأيي، أن في وقائع الزيارة الأولى التي قام بها أوباما إلى إسرائيل في آذار 2013 إبان ولايته الثانية، ما يشكل مكاناً رحباً شاسعاً يشكل أرضية لتلك المعالم، وأرضاً لتقييم الموقف الأميركي التقليدي إزاء إسرائيل.

ولدى العودة إلى تلك الزيارة، لا بُدّ من أن نشير من ضمن أمور أخرى إلى أن مؤدى الرسالة الجوهرية التي وجهها أوباما إلى الرأي العام في إسرائيل، من خلال الخطاب الذي ألقاه أمام المئات من الطلبة الجامعيين في القدس يوم 21 آذار 2013، هو أنه من أجل الحفاظ على إسرائيل كـ “دولة يهودية ديمقراطية” لا بُد من التخلي عن الاحتلال والاستيطان في أراضي 1967، وإتاحة المجال أمام إمكان إقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة إلى جوارها، الأمر الذي يعتبر أفضل ضمان لأمن طويل الأمد، سيظل مُدجّجاً بدعم “الدولة الأقوى في العالم” لـ”الدولة الأقوى في المنطقة”، على حد تعبيره.

غير أنه وراء هذه الرسالة كان ثمة رسائل كثيرة موجهة في الوقت عينه إلى الفلسطينيين والعرب، سواء من خلال الخطاب، أو من خلال وقائع أخرى اشتملت عليها أول زيارة لأوباما كرئيس للولايات المتحدة إلى إسرائيل، وتعكس من دون مبالغة عدداً من التحولات في مقاربته الفكرية والسياسية.

وسأركز على عدد من هذه الرسائل:

أولاً، لعل أبرز هذه الرسائل وأشدها خطورة هي إشهار تبني إدارة أوباما مطلب إسرائيل أن يتم الاعتراف بها كدولة يهودية، أو بلغة الخطاب الإسرائيلي “دولة قومية للشعب اليهودي”، على ما انطوى عليه ذلك من منح ضوء أميركي أخضر لسن “قانون القومية” الإسرائيلي لاحقاً، في العام 2018. وكان شأن إدارة أوباما في ذلك مثل شأن الإدارة الأميركية السابقة لها برئاسة جورج بوش الابن التي أقرّت بهذا المطلب منذ العام 2003 (في أثناء قمة العقبة). ومن ثم أخذ بُعداً واسعاً منذ مؤتمر أنابوليس الذي عقد في خريف العام 2007، وأصبح منذ بدء ولاية حكومة بنيامين نتنياهو الثانية (في نيسان 2009)، بمثابة قضية خامسة متقدمة في قائمة القضايا الجوهرية المدرجة في جدول أعمال مفاوضات ما يسمى بـ”الوضع النهائي”، فضلاً عن القضايا الجوهرية الأربع الأخرى وهي: الحدود والمستوطنات؛ القدس؛ اللاجئون؛ الترتيبات الأمنية. بل إنه بالتزامن مع افتتاح جولة المحادثات السياسية في أواخر صيف 2010 (والتي لم تعمّر طويلاً)، حظيت هذه القضية في الأجندة التي عرضها نتنياهو إزاء العملية السياسية بمكانة الصدارة من حيث أهميتها. وقد طرح خطاب أوباما هذا المطلب كشرط للتسوية أمام العالم العربي، وأمام الفلسطينيين، قائلاً: “هذا هو الوقت المناسب للعالم العربي كي يُقدم على اتخاذ خطوات نحو تطبيع العلاقات مع إسرائيل. وفي الوقت نفسه، يتعين على الفلسطينيين الإقرار بأن إسرائيل ستكون دولة يهودية، وبأن الإسرائيليين لديهم الحق في الإصرار على مطالبهم الأمنية”.

ثانياً، شرعنة أساس الرواية التاريخية الصهيونية، التي ترى أن استعمار فلسطين كان تحقيقاً لعودة “الشعب اليهودي” إلى “أرض الميعاد” كي يكون “شعباً حرّاً في وطنه”، ويحيي القفار، ويحقق الاستقرار في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ويطبق “المُثل” المشتركة لـ”الأمتين الأميركية والإسرائيلية”.

ولفت أوباما في خطابه إلى أنه منذ إقامة دولة إسرائيل (قبل نحو 65 عاماً في ذلك الوقت)، عُقدت بينها وبين الولايات المتحدة علاقات خاصة غير قابلة للفصم، بدأت بعد 11 دقيقة من استقلال إسرائيل عندما كانت الولايات المتحدة أول دولة في العالم تعترف بالدولة الجديدة، وقال الرئيس ترومان في معرض تفسيره قرار الاعتراف بها: “إنني أومن بأن مستقبلاً زاهراً سوف يكون ماثلاً أمامها، ليس كأمة ذات سيادة فحسب، وإنما أيضاً كتجسيد للمُثل الكبرى لحضارتنا!”.

ثالثاً، لدى قيام أوباما يوم 22 آذار 2013 بزيارة متحف “ياد فشيم” في القدس لتخليد ضحايا المحرقة النازية، ألقى كلمة أكد فيها أن هذه المحرقة لا تشكل المبرّر الرئيس لإقامة دولة إسرائيل. وبذا تساوق مع مسار متواتر تقوم به إسرائيل في الأعوام الأخيرة يتعلق بـ”جوهر الحق اليهودي” في فلسطين، من ناحية كونه المبرّر الأساس لشرعية إقامتها، ومن ناحية أولويته غير القابلة للتأويل على أي ظروف أو أوضاع أخرى وقفت وراء إقامتها من وجهة النظر السياسية- التاريخية، وفي مقدمها قرار التقسيم الأممي من العام 1947، وما ساهمت المحرقة فيه من تأثير في الاصطفاف الدولي المؤيد لذلك القرار. وينبغي القول إن الدافع المباشر لهذا المسار، ناهيك عن مواجهة الرواية التاريخية العربية والفلسطينية، كان في حينه إحدى الفقرات الواردة في الخطاب الذي ألقاه أوباما في جامعة القاهرة، يوم 4 حزيران 2009، في مستهل ولايته الرئاسية الأولى، والتي انطوت على تلميح صريح بأن قيام إسرائيل لا يعدو كونه أحد استحقاقات “العذابات اليهودية”، التي بلغت ذروتها في المحرقة النازية، وفقاً لما قاله. وجاء في تلك الفقرة حرفياً ما يلي: “لقد تعرّض اليهود على مرّ القرون للاضطهاد، وتفاقمت أحوال معاداة السامية في وقوع المحرقة التي لم يسبق لها أي مثيل عبر التاريخ، وإنني سوف أقوم غدا بزيارة معسكر بوخينفالد (في ألمانيا)، الذي كان جزءاً من شبكة معسكرات الموت التي استخدمت لاسترقاق وتعذيب وقتل اليهود رمياً بالأسلحة النارية وتسميماً بالغازات. لقد تم قتل ستة ملايين من اليهود، يعني أكثر من إجمالي عدد اليهود بين سكان إسرائيل الآن. إن نفي هذه الحقيقة هو أمر لا أساس له وينم عن الجهل وعن بالغ الكراهية، كما أن تهديد إسرائيل بتدميرها، أو تكرار الصور النمطية الحقيرة عن اليهود، هما أمران ظالمان للغاية ولا يخدمان إلا غرض استحضار تلك الأحداث الأكثر إيذاء إلى أذهان الإسرائيليين، وكذلك منع حلول السلام الذي يستحقه سكان هذه المنطقة”.

وقد أثار تلميح أوباما هذا، على الفور، موجة من الجدل في الخطاب السياسي الإسرائيلي. وسرعان ما انعكس ذلك في الخطاب الذي ألقاه رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، في جامعة بار إيلان، في يوم 14 حزيران 2009، والذي اعتبر بأنه، في الحدّ الأقصى، بمثابة ردّ على خطاب أوباما السالف. ولدى العودة إلى ما قاله نتنياهو في هذا الخطاب نطالع ما يلي: “إن حق الشعب اليهودي في أن تكون له دولة في أرض إسرائيل (فلسطين) لا ينبع من سلسلة الويلات التي ابتُلي بها. صحيح أن اليهود تعرضوا خلال ألفي عام إلى معاناة فظيعة تتمثل بعمليات الترحيل والمذابح والافتراءات والقتل مما بلغ ذروته في المحرقة النازية التي لم يكن لها مثيل أو نظير في تاريخ الأمم والشعوب. وهناك من يقول إنه لولا وقوع المحرقة لما كانت دولة إسرائيل ستقوم، لكنني أقول إنه لو قامت دولة إسرائيل في موعدها لما كانت المحرقة ستقع أصلاً. إن المآسي الناتجة عن عجز الشعب اليهودي توضح سبب احتياج شعبنا إلى قوة حامية سيادية تتبع له. غير أن حقنا في إقامة دولتنا هنا في أرض إسرائيل مردّه حقيقة واحدة بسيطة: إن هذه الأرض هي وطن الشعب اليهودي وهنا نشأت هويتنا، كما قال ذلك رئيس الحكومة الأول ديفيد بن غوريون لدى إعلانه عن إقامة الدولة: ’نشأ الشعب اليهودي في أرض إسرائيل، وفيها تمت صياغة شخصيته الروحانية والدينية والسياسية، وفيها عاش حياة مستقلة في دولة ذات سيادة، وفيها أنتج ثرواته الثقافية الوطنية والإنسانية العامة وأورث العالم أجمع سفر الأسفار الخالد’” (هذه العبارات هي اقتباس من الفقرة الاستهلالية لـ”وثيقة استقلال دولة إسرائيل”).

لكن الجدل، في هذا الشأن، لم يتوقف عند ما قاله نتنياهو فحسب، بل ارتفعت أيضاً أصوات أخرى تنحي باللائمـة على الحكومة الإسرائيلية، وتتهمها بالقصور في إقنـاع الإدارة الأميركية الأوبامية بأن حق دولة إسرائيل في الوجود مُستمد أساساً، بل وحصرياً، من حق اليهود التاريخي في فلسطين، باعتبارها وطنهم القومي الأصلي. وقد بلغ الأمر بأحد القادة التاريخيين في حزب الليكود، وهو وزير الدفاع السابق موشيه آرنس، أن عزا جوهر “الخلافات الأخيرة” بين إسرائيل والولايات المتحدة إلى عدم فهم أصحاب القرار في “البيت الأبيض” مركزية هذا الحق في مبادئ الصهيونية ومبررات إقامة إسرائيل، ونزوع هؤلاء إلى الاعتقاد بأن المحرقة النازية كانت العامل المركزي وراء إقامتها. وتحت عنوان “إسرائيل لم تولد من المحرقة” أشار إيلي إيال، رئيس تحرير المجلة الفكرية الصهيونية الفصلية “كيفونيم حداشيم” (“اتجاهات جديدة”)، إلى أن أقوال أوباما السالفة قيلت بحُسن نية، لكنه شدّد على أن الاستنتاج التاريخي منها كان خطأ. وفي مقال للباحث في “معهد دراسات الأمن القومي” في جامعة تل أبيب مارك هيلر تضمن تقويماً مرحلياً لأول نصف من ولاية الرئيس أوباما الأولى، أكد أن اللهجة الخطابية التي سعى هذا الأخير من خلالها لتأكيد تطلعه إلى رسم “بداية جديدة” في علاقات الولايات المتحدة مع العالم الإسلامي عبرت عن وعي عال إزاء عواطف وحساسيات مضيفيه (أي العرب)، لكن في مقابل وعي قليل إزاء عواطف إسرائيل وحساسياتها. وعلى سبيل المثال- أضاف الباحث- فقد أعاد خطاب أوباما في جامعة القاهرة تأكيد التزام الولايات المتحدة إزاء إسرائيل، كإقرار مشروع بمعاناة اليهود على مرّ التاريخ. ولكن مهما تكن نوايا هذه الرسالة حسنة، فإنها اعتبرت في نظر كثيرين تعبيراً عن جهل فيما يتعلق بالرابطة التاريخية للشعب اليهودي بأرض إسرائيل، وخاصة بشأن مركزية القدس في الهوية اليهودية. بل واعتبرت هذه الرسالة إقراراً بادعاء العرب القائل إن الفلسطينيين اضطروا إلى دفع ثمن جرائم الأوروبيين بحق أبناء الشعب اليهودي!