الضربة المؤلمة التي تعرضت لها طهران، باغتيال – سليماني النووي – العالم محسن فخري زادة، عراب المشروع النووي الإيراني، والتي تحمل بصمات الموساد الإسرائيلي، قبل «أسابيع الجمر» التي تفصلنا عن موعد انتقال البيت الأبيض إلى ساكنه الجديد جو بايدن. أشبه باغتيال قاسم سليماني، حارس حلم «تصدير الثورة»، والذي أدى رقصة النصر على خرائط الهلال الشيعي، من حيث الحجم والمرارة.
ويمكن ربطها بتسريع إدارة دونالد ترامب ما يسمى بحملة «أقصى ضغط» قبل رحيلها، خصوصاً أن الاغتيال جاء بعد أسبوعين فقط من طلب ترامب للبنتاغون توجيه ضربة إلى منشأة نطنز النووية.
وفي خلفية المشهد يظهر إرسال واشنطن حاملة بارجية حربية إلى المنطقة، في خطوة قال البيت الأبيض إنها مقررة مسبقاً، لكن مراقبين أصروا على اعتبارها، في الحد الأدنى من حيث التوقيت، رسالة ردع إلى إيران.
فمنذ خسارة ترامب في الانتخابات الرئاسية، تتحدث تقارير أميركية عن إمكانية توجيه ترامب ضربة عسكرية ضد إيران خلال الفترة الانتقالية. وذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» أنّ ترامب عقد اجتماعًا مع كبار مستشاريه، مبديًا اهتمامه بإمكانية ضرب أكبر منشأة نووية إيرانية في نطنز. فيما مواقع إسرائيلية سرّبت، أن الجيش الإسرائيلي تلقّى تعليمات من قيادته بالاستعداد لسيناريو عمل أميركي ضد إيران قبل أن يغادر ترامب البيت الأبيض.
وعكست عملية اغتيال زاده، خرقاً أمنياً كبيراً، لشخصية بهذه الأهمية، وهو ما أقر به المستشار العسكري لخامنئي، حسين دهقان، الذي انتقد الهيكل الأمني الإيراني في السنوات الأخيرة، قائلاً إنّه على الرغم من هيمنة و»أرستقراطية المخابرات» للحكومة الإيرانية، هناك «اختراقات».
ويبدو حتى الآن ان البديل عن الحرب العسكرية الشاملة في المنطقة يتمثّل في حرب بالتقسيط او بالمفرق مع إيران، من خلال الضربات المحدودة والعمليات الأمنية، مع الاشارة الى انّ ضبط هذا النوع من المواجهات الموضعية ليس مضموناً بالضرورة.
وما جرى في العمق الإيراني من اغتيال شخصية علمية بهذا الوزن، ليس سوى فصل إضافي من حرب استخبارية - أمنية، تدور بلا توقف تقريباً بين طهران من جهة والجانبين الاسرائيلي والأميركي وبعض العرب من جهة أخرى، علماً انّ جزءاً من وقائع هذه الحرب يبقى طَي الكتمان، ولا يعرف به سوى الضارب والمضروب.
إسرائيل هذه المرة، وعلى عكس حالة الصمت التي تلت عملية اغتيال سليماني، أرسلت العديد من الإشارات الإعلامية، التي تشير إلى تورّط «إسرائيل» في عمليّة الاغتيال، مصحوبةً بحالةٍ استفزازيّةٍ من التّفاخر الإسرائيلي تجاه إيران، بدأها نتنياهو، من خلال فيديو نشره على حسابه على تويتر، بعد أقلّ من نصف ساعةٍ من عملية الاغتيال.
لقد مثّلت خسارة ترامب للانتخابات الرئاسية، فشلاً استراتيجياً للخطة الإسرائيلية تجاه إيران ومشروعها النووي، كون نتنياهو يدرك أن إدارة بايدن ستتبنى سياساتٍ مرنة إزاء إيران ومشروعها النووي.
لكن اغتيال أبي المشروع النووي زاده، وإن كانت خسارة كبيرة لإيران، على المستوى التكتيكي، لن تتسبب بخسارة لطهران على المستوى الإستراتيجي. وكما كتب باراك رافيد المحلل السياسي الإسرائيلي معلّقاً على عملية اغتيال زاده «إنه لا ينبغي للمرء أن يعيش في وهمٍ أن البرنامج النووي الإيراني قد تمّ القضاء عليه اليوم كما يروّج العديد من المسؤولين الحكوميين الإسرائيليين، حيث لم نشهد مغادرة الإيرانيين سورية بعد جنازة قاسم سليماني.
ومن المتوقع ان يأتي انتقام طهران ضمن قواعد «السجال الاستخباري» مع اعدائها، سواء في الساحات الأمامية للنزاع او الخلفية، وضمن الرد «المحسوب»، مع العلم أن الإيرانيين هم مخترعو مقولة الصبر الإستراتيجي، وهم محترفو حياكة السجّاد التي تعتمد على الصبر وتحقيق الهدف، ومخترعو لعبة الشطرنج التي تستند الى الفكر.
وتدرك طهران أن خطر ترامب لم ينته بعد، وأنه يسعى الى نصب الأفخاخ امام خلفه بايدن بمعية نتياهو. لذلك، عممت القيادة الإيرانية على حلفائها في العراق وسورية ولبنان- قبل اغتيال زاده-، بعدم منح ترامب أعذاراً تسمح له بتنفيذ ضربات مجنونة قبل رحيله. وقد حمل قائد فيلق القدس اسماعيل قاءاني هذه الرؤية الى الحلفاء الذين زارهم في لبنان وسورية والعراق، ذلك انّ هنالك سعياً من جانب اسرائيل لتسخين الوضع مع ايران، لاستدراجها الى ردّ عسكري يستهدف مصالح اميركية، وبالتالي رفع سقف المواجهة في المنطقة وإلزام بايدن بالعودة من مسافة بعيدة، أو تغيير قواعد اللعبة بين واشنطن وإيران.
وربما تنطلق أبيب من مشهدية حرب أذربيجان، التي حصلت في ظل انشغال واشنطن بانتخاباتها وبجائحة كورونا، في هذا الوقت تمكن الرئيس الأذري بدعم من تركيا من شن حرب صغيرة، استطاع من خلالها تغيير المياه الراكدة منذ 28 عامًا في ناغورني كاراباخ. وانطلاقاً من مجريات كارباخ ربما سعت إسرائيل لاستنساخ التجربة بالتواطؤ مع ترامب وفريقه مستفيدة من التوقيت، لجر طهران للرد العسكري، وتوريط واشنطن والبنتاغون برد عسكري كبير، يقوم بتغيير في المعطى الأميركي الثابت الذي يعتمد على العقوبات فقط ضد طهران؟.
على كل حال ضربة محسن زاده، لن تفت في عضد إيران، بقدر ما ستمنحها قوة على أعتاب عهد بايدن، الذي ينتظر منها ضبط النفس، وانتظار إدارته، صحيح أن الضغوط الاقتصادية انهكت المجتمع الايراني، وانّ طهران تتوق لرفع القيود والعقوبات عنها.
لكن العقوبات الاقتصادية، لن تعوق الديبلوماسية الايرانية «صعبة المراس»، في حال استئتاف بايدن المفاوضات معها، من سلوك درب متعرّج وممر صعب، خصوصا وأن طهران تشعر بأنّها لا تزال تمتلك اوراق قوة خصوصاً في اليمن والخليج، وفي العراق وسورية ولبنان.
فعلى سبيل المثال، ستنتظر حتى حزيران المقبل حين ستحصل الانتخابات الإيرانية الرئاسية. وستعمد الى إبراز الضعف والتراجع الكبيرين للتيار الاصلاحي الذي كان سنداً قوياً للاتفاق النووي عام 2015، وحيث تشير الترجيحات الى فوز مدوٍ سيحصل لمصلحة محمد باقر قاليباف المتشدّد.
وكذلك ستتمسك طهران بإطار دول «الخمس زائد واحد»، اي بدور اكثر فعالية لأوروبا. وفي هذه النقطة قد تتقاطع طهران مع أسلوب بلينكن وزير خارجية بايدن، الذي يؤمن بالتعاون مع الأوروبيين والاستعانة بهم في الشرق الأوسط. والذي قال مؤخراً: لا يمكننا معالجة مشكلات العالم بمفردنا، فعلينا ان نعمل مع الدول الاخرى وان نتصرف بتواضع ولكن بثقة.
