على الرغم من أن العالم يعاني كثيراً جراء تفشي فيروس «كورونا» بمعدلات قياسية وتأثيره على اقتصادات الدول والحالة النفسية والصحية للأفراد، إلاّ أن الصين واحدة من بين الدول القلائل التي استفادت من هذا الفيروس الذي ظهر وانتشر من مدينة ووهان الصينية.
العديد من دول العالم سارعت إلى إغلاق حدودها ودفعت بالأموال من خزائنها واستدانت لتخفيف الأعباء الاقتصادية المترتبة على انتشار «كوفيد- 19»، وهناك دول أخرى ظهرت عيوب كبيرة في بناها الصحية ولم تتمكن من تخفيف حدة أعداد المصابين والمتوفين من جراء الجائحة.
الصين التي تتربع في المرتبة الثانية على سلم الاقتصاد العالمي، تمكنت من محاصرة «كورونا» منذ بداية ظهوره تقريباً، وفي ذات الوقت استعجلت في تبني إجراءات اقتصادية للدفع بالسلع الضرورية إلى الدول التي عانت وتعاني من سرعة انتشار الفيروس خصوصاً في هذه الأوقات.
وإذا كانت دول كثيرة تعاني من اختلال في موازينها المالية نتيجة للوضع المستجد، إلاّ أن الصين سجّلت نمواً بسبب زيادة صادراتها، وهو نمو لم تحققه منذ ثلاثة أعوام، والسبب أن هناك طلباً كبيراً على المستلزمات الصحية وكل ما يتصل بإدارة العمل من المنزل، فضلاً عن مواسم أعياد الميلاد ومستلزمات أخرى.
الذي حصل من البداية أن بكين اتخذت إجراءات صارمة لمحاصرة ومنع تفشي «كورونا»، وفي المقابل كثفت العملية الإنتاجية لمجاراة زيادة الطلب في السوق العالمي، وهو ما جعلها تجني أرباحاً على صادراتها بأكثر من 75 مليار دولار في شهر تشرين الثاني الماضي.
صادرات الصين ارتفعت إلى ما يزيد على 21% في الشهر الماضي عن نفس الشهر من العام 2019، ومن غير المستبعد أن يزيد الطلب على السلع الصحية الوقائية المرتبطة بالفيروس، وكذلك سلع أخرى تبتكرها الصين من باب توسيع صادراتها وتوصيلها إلى كل بقاع الأرض.
ستظل الصين تحقق نمواً في صادراتها لأسباب كثيرة، ربما من أهمها توفير المستلزمات الضرورية بالسرعة والزمن القياسي، وبسعر تنافسي لا يمكن الحصول عليه من أي سوق آخر، وهذا الذي يفسر انتشار البضائع الصينية وتجولها في دول العالم.
أيضاً تحاول بكين التنافس مع الولايات المتحدة الأميركية وروسيا بشأن بيع وتوزيع لقاح «كورونا» على دول العالم، وبالتأكيد سيكون لها حصة في هذا السوق ارتباطاً بسعر منتجاتها التي تعتبر تنافسية وتدفع الكثير من الأفراد لشرائها كونها في متناول اليد.
الصين منذ أكثر من عشرة أعوام وهي تتربع على عرش الصادرات من السلع والخدمات، حيث بلغت صادراتها في العام 2019 حوالي 2.5 تريليون دولار، متجاوزة الولايات المتحدة التي صدرت ما قيمته 1.65 تريليون دولار، وكذلك حقق الميزان التجاري الصيني فوائض نقدية كبيرة.
ثمة سلع كثيرة لا يمكن للولايات المتحدة ولا غيرها من الدول توفيرها كما تفعل الصين، وهذا منسجم مع حجم العمالة الضخمة وتكاليفها في بكين وكذلك سعر المنتج التنافسي الذي يغري المستهلك، وستحاول الأخيرة التنافس في سلع متقدمة لتخطي الولايات المتحدة واليابان وألمانيا.
من المهم جداً قراءة وفهم النموذج الصيني الذي حقق قفزات كبيرة في التنمية طوال السنوات الماضية، وهي قفزات قد تطيح بمكانة الولايات المتحدة أقوى دولة في العالم على صعد كثيرة، ومتى حققت بكين تقدماً في المجال الاقتصادي فمن المرجح أن تربط ذلك بتقدم في السياسة والقوة العسكرية وغيرها من المجالات الأخرى.
الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترامب الذي أنتجت بلاده العولمة وسوقتها إلى العالم واستفادت الصين منها، حاول جاهداً محاربة بكين تجارياً لكنه لم يتمكن من تحقيق مراده، وربما تجده يلعن العولمة التي جنت منها الصين أرباحاً كبيرة، إلى درجة أنها قد تصبح في موقع الصدارة من الناحية الاقتصادية.
ثمة استراتيجية تتبعها بكين للتقدم في سلم النظام الدولي، وهي استراتيجية هادئة تتسم «بالتمسكن حتى التمكن»، فسلعها حاضرة في كل بقاع العالم، في الدول الفقيرة والنامية، وكذلك في الدول الغنية التي تتمسك بالمنتج الصيني كونه محمول الثمن، ومن غير المستبعد أن تدخل بكين بقوة في سوق السلاح العالمي والعلوم المتقدمة.
هي تتمسكن بتوسيع حضورها الاقتصادي والسياسي في العالم بدون افتعال مشكلات، وفي نفس الوقت مهتمة ببناء امبراطورية تعتمد السيطرة على الاقتصاد العالمي، ولا يوجد هناك من دولة قادرة على منافسة الصين في صناعة المنتجات المتنوعة وتلبية الطلب عليها في السوق العالمي.
لكل ذلك تستنفر الولايات المتحدة لفرملة الصعود الصيني في تجاوز الأولى على سلم النظام الدولي، لكن الحرب على بكين ليست سهلة بتاتاً، في أي جانب منها سواء السياسي أو الاقتصادي أو العسكري حتى، وفي آخر المطاف ثمة رابح وخاسر في هذه المعادلة الاقتصادية والتجارية.
«كورونا» جعلت من الصين أفضل نموذج للتعامل مع هذه الجائحة وتعظيم النفقات الاقتصادية، وإذا ظلت تحقق القفزات التنموية في وقت السلم والحرب وفي خضم الأزمات والكوارث، فإنها بالتأكيد ستضع الولايات المتحدة خلفها، علماً أن واشنطن من أكثر الدول التي نفعت الصين ونفختها بالعولمة الأميركية.