بعد أن نجح باستبدال كارثة مقتل رابين في الوعي الجماعي بكارثة اتفاقيات أوسلو، واستبدال السعي إلى اتفاق سياسي بالسعي إلى الاتصال فقط؛ بعد أن قدم معسكر اليسار كدليل على المثالية المتلونة وغياب الامل؛ وبعد أن ضرب النخبة القديمة فقط من أجل تحويل المثقفين الى أمة من القردة المسلحين، حفر نتنياهو قبر المفتي، وأخرج عظامه، وأنعش بمساعدتها الخوف من الاسلام وكراهية الفلسطينيين التي يؤججها منذ سنوات بتصريحاته الفارغة.
من اجل مواجهة تحويل نتنياهو للمفتي الى رمز الروح الفلسطينية كمن استهدف حياة اليهود وحتى هتلر، استدعت وسائل الاعلام الكثير من المؤرخين ولم تستدع أحداً من الإخصائيين النفسيين.
ألم يكن من الاجدر البحث في الجوانب الخاصة باللاوعي وزلة اللسان وتشويه الحقائق؟
أحد شروط الكذب هو ان الانسان يقوم به دون ادراك واضح لافعاله. ويبدو أن التدقيق النفسي بواقعنا في العقدين الاخيرين سيثبت ان هذين العقدين هما انعكاس لشخص واحد: جميعنا نعيش في ظل بيبي الذي تلاحقه الاشباح. وانهيار عام ومتواصل للحياة الاجتماعية، والاحتقار المتبادل الذي تحول الى معارك السكاكين بين المواطنين، والكراهية التي نزلت علينا منذ دخل السياسة، فكل هذا هو بصمته النفسية على حياتنا.
قبل عدة ايام تحدث عضو الكنيست، أحمد الطيبي، على منصة الكنيست عندما حاول أن يفهم ما الذي دفع نتنياهو الى التحدث هكذا عن المفتي، وكأن الوعي ضربه للحظة حيث صرخ الطيبي: «هل يكرهنا إلى هذا الحد؟» هذه ليست كراهية فقط وانما تجربة وجودية عميقة تحاول ان تجسد نفسها بالواقع. ولا توجد طريقة افضل من التشمير عن الذراع وادخال اليد في التاريخ.
يحاول المحللون منذ سنوات فهم ما يدور في رأس نتنياهو. والواقع الذي نعيشه هو رأس نتنياهو: من الواضح الآن أنه قرر منذ البداية عمل كل شيء لكل يحافظ الفلسطينيون على مصيرهم غير المعقول كلاجئين الى الأبد، لا بيت لهم ولا مواطنة، ودفعهم الى صراع عنيف لتحسين وضعهم، صراع يؤكد الصورة التي ألصقها بهم كمتعطشين للدماء وخائنين وممنوع اعطاؤهم دولة. واليكم نظرية تحولت الى واقع؛ الضحايا والمراقبون يختلطون ببعضهم، شخصيات من التاريخ تُستحضر، والماضي والحاضر يركبان كل مرة صورة جديدة.
ومن يريد النظر الى الواقع الذي تكوّن في رأس نتنياهو مدعو الى العودة الى السنة الاولى لفترة حكمه، وأحداث النفق، التي تسببت بالصدام المسلح الاول بعد اتفاقيات اوسلو والذي تسبب بعشرات القتلى، وقراءة مقال اسرائيل هرئيل في «هآرتس»: الاف المصابين تتم تسميتهم ضحايا اوسلو دون اقواس ومن تسبب بذلك هو «معسكر السلام»، والذي يحصل على ذلك من اجل التأكيد على تلونه. التاريخ كما يرويه هرئيل بالعكس يخلق قلة أدب، بانتظار الاعتراف بالخطأ واللفظ العلني لافعال صانعي السلام الذين اعطوا الفلسطينيين سلاحا، فتحولوا الى سكاكين اليوم.
هكذا يصنع التاريخ، وهكذا يهيئون الكولونيالية الاسرائيلية كحل دائم.
عن «هآرتس»
قراءة أولية في خطاب نصر الله
21 سبتمبر 2024